سباق المسافات الطويلة الى الحنانة
اجنادين نيوز / ANN
هادي جلو مرعي
دائما مايكون المطر رفيقا للقصص الحزينة، وللموت، والجنائز المحفوفة بالعزلة والسكون، كانت تلك الليلة صامتة، قبلها شعرت بشيء من الرهبة، وكنت أبحث عمن يقرضني مبلغ الأجرة للذهاب من قريتي البائسة المسماة السعادة التي تقع الى يمين الطريق العام الرابط بين بغداد ومحافظة ديالى، الى معسكر (باب الحسين) في الحلة، وكنت أخشى ضابط الأمن الفاسد الذي كان يمارس إرهابه مع الجنود، وكنا نحن خريجي الكليات تم تجميعنا في المعسكر الذي يمتد حتى سايلو الحلة شمالا، و(باب الحسين) جنوبا، والذي نصله في بعض الليالي بعد نهاية وقت التدريب، حتى أتيحت لي الفرصة من خلال صديقي (حازم) الذي راح يتفق مع طلاب الكلية الذين كانوا يدفعون جيدا، وكان (حازم) يأتيني بالمال والكتب التي أشتغل منها بحوث التخرج، والتقارير الفصلية، وكنت أستفيد منها لدفع (الرشوة) لضباط المعسكر الذين كانوا يأخذون الأموال مقابل السماح بنزولنا لأسبوع كامل، وصرنا نداوم على دفع تلك المبالغ مساء كل سبت لنتوجه الى كراج (باب الحسين) ومنه الى الكراج العام في الحلة، ومنه الى بغداد، لكننا فوجئنا وقت التسريح أنهم كانوا يسجلون علينا آيام الغياب، وأضطررنا للدفع مجددا في معسكر المحاويل البغيض، وفي معسكرات الدفاع الجوي حتى تسلمنا كتاب التسريح في نهاية الأمر.
في تلك الليلة تم نقل ضباط كبار، وضباط صف الى النجف، وكانت الهمهمات بين الجنود ورؤساء العرفاء في المعسكر عن عمل كبير في مكان ما، وكنت أظنه تأهبا لقصف جوي مماثل للذي قامت به (إدارة بيل كلنتون) لمرات عديدة منتصف التسعينيات، لكن المهمة كانت مختلفة هذه المرة، لنكتشف إنها كانت إحاطة كاملة بمهمة إغتيال يقوم بها جهاز حكومي للمرجع الشيعي محمد الصدر وولديه مصطفى ومؤمل، وقبلها بأسبوع مررت و(حازم وسيد مجيد) الذي تكفل بنقلنا الى مسجد الكوفة لصلاة الجمعة مررت بشارع (الشربياني) وقرب البراني الخاص بالصدر، وكان متواضعا للغاية وبسيطا، ولم أكن أعلم إنها الجمعة الأخيرة قبل الجمعة التالية التي كان مساؤها ممطرا وكئيبا بالنسبة للذين فوجئوا برجل دين يقف في مسجد الكوفة يناجز النظام السياسي الأعقد والأمكر والأقوى في تاريخ العراق الحديث الذي تسبب إسقاطه بحالة فوضى عارمة، ومواجهات طائفية غير مسبوقة، وتدخلات أجنبية صادمة غيرت شكل النظام السياسي الى الأبد.
كانت فرقة الموت تنتظر سيارة (ميتسوبيشي) البسيطة في حي (الحنانة) الذي كان التاريخ يهيئ له أن يكون الحي الذي ستنتقل آليه قرارات الدولة العراقية المهمة، ويتوجه إليه الساسة، وسفراء العالم بعد أن كان حيا مهملا توقع النظام الحاكم في حينه أنه سيلغيه من خارطة الإهتمام، لكنه تحول الى حالة قلقة لقوى سياسية عدة، وأخرى حليفة، وجمهور يحاول الجميع فهم طبيعته، وسر إندفاعه وراء (رجل الحنانة الجديد) الذي خرج من عباءة الأب المضرج بالدم. وطويت (الحنانة) بعد حادثة الإغتيال، وتركت للنسيان، لكنها شكلت معضلة كبرى للسياسيين العراقيين الذين يختلفون مع الصدر في توجهاته، بينما صار آخرون يزورونها بحثا عن حل للأزمات السياسية المتلاحقة في هذا البلد الباحث عن غد مختلف، والواقف في طابور الإنتظار الممل للحصول على فرصة حياة جديدة.
(الحنانة) تعني الحنين والعطف ورقة القلب في معاجم اللغة، وقيل إنها سميت بذلك عند مرور سبايا الحسين حيث صدرت أصوات حزينة من هذا المكان، وقيل: إنها نسبة الى راهب إسمه (حنا) ودير بناه النعمان بن المنذر. هذه الناحية في شمال غرب النجف لم تعد حيا عاديا، بل مكانا قد يحدد مسار المرحلة المقبلة في بلد تتناوشه الصراعات، والإتجاهات الفكرية والعقائدية، وتتنازعه القوميات والطوائف، وتنظر آليه بلدان عدة في العالم بعيون ونوايا تثير قلق العراقيين على مستقبلهم. العراقيون يستعدون لإنتاج جيل بشري مختلف قد يشكل معضلة لكل حكومة قادمة بسبب التنوع، والطموحات المتصاعدة، والرغبة في التجديد، وتزايد الحاجات التي تتطلب طريقة حكم، وإدارة غير تقليدية.