روسيا تضع الغرب بين مطرقتها وسندان التبعيّة الأمريكية على صفيح التحولات الدولية الكبرى.
اجنادين نيوز / ANN
بقلم: الكاتب والصحفي السوري سامر كامل فاضل.
ـ صديق الاتحاد الدولي للصحفيين والإعلاميين والكتّاب العرب اصدقاء وحلفاء الصين.
العملية العسكرية الخاصة الروسية في أوكرانيا هذه الأيام، هي صراع أمريكي روسي قديم كان موجوداً في آسيا وانتقل إلى هذه البقعة الجغرافية بعد فشل كل حروب واشنطن في آسيا التي بدأتها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فكان فشلها في العراق وخروجها من أفغانستان بعد عشرين عاماً من الاحتلال إعلاناً أمريكياً لانتهاء حروبها في آسيا والتي أصبحت خالية من الوجود الأمريكي، فكان خيار واشنطن بالمواجهة المباشرة مع روسيا على تخومها من بوابة القارة الأوروبية التي كان ممنوع عليها الاتحاد إبّان فترة وجود الاتحاد السوفييتي وسُمِحَ لها بالتوحّد بعد تفككه عام /1994/ أملاً باستيعاب كل دول أوروبا الشرقية المنفرطة عن هذا الاتحاد وضمّها لاحقاً إلى أوروبا ودخولها حلف الناتو لتصبح رأس الحربة لواشنطن على الحدود الروسية مباشرةً وتطويقها جغرافياً واقتصادياً وفرض شروط تأمين الغاز لأوروبا بما يناسبها كخطةٍ شبيهةٍ بما فعلته أمريكا في آسيا أثناء غزو العراق وأفغانستان لتطويق الصين وتكبيل اقتصادها، وفشلت .
إذاً الحرب الأمريكية على روسيا لم تتوقف مع انتهاء الحرب الباردة بينهما وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي انطلاقاً من القناعة الأمريكية بأنّ روسيا ستسعى بكل ما تملك من جغرافيا وقوة عسكرية وموارد للطاقة إلى استعادة ألق الاتحاد السوفييتي ومكانته الدولية والعالمية يوماً ما، وقد ازدادت هذه القناعة بشكلٍ كبير بعد مجيء الرئيس بوتين إلى السلطة .
لا أحد يختلف اليوم على توصيف الحرب الأوكرانية بأنها حربٌ بين الطرف الروسي الثابت من جهة، وبين طرف آخر هو واجهة لحلف الناتو والغرب الذي تقوده واشنطن والتي رسمت خططها الاستراتيجية على مرّ الزمن لتفتيت روسيا ذات الحجم الكبير في المساحة وعدد السكان والتي لا بدّ أن تستعيد أمجادها حسب الاعتقاد الأمريكي ، ولم تكن الحرب اليوغسلافية التي افتعلتها أمريكا إلّا الخطوة الأولى في هذه الاستراتيجية تجاه تفتيت روسيا , فكانت نتيجة هذه الحرب تفكك يوغسلافيا إلى عدّة دول منها سلوفينيا وصربيا في إشارةٍ واضحة إلى فصل العنصر السلافي الذي كان مشتركاً بين الروس والصرب والذي شكّل مصدر قلق لواشنطن على الدوام , وحتى لا يتكرر المشهد اليوغسلافي في أوكرانيا , كان خيار موسكو باعتماد قاعدة نابليون بونابارت بأنّ أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم , لتكون حرب أوكرانيا هي حرب ترسيم خرائطَ جديدة على تخوم أوروبا المعنيّة بهذه الحرب قبل أوكرانيا , وبالتالي فالرصاص الدائر في الحرب على الساحة الأوكرانية لن يسكته إلّا اتفاق بين روسيا و واشنطن على المشهد الأوروبي قبلَ المشهد الأوكراني , من خلال حلٍ سياسيٍ يضمن كل الحقوق والشروط الروسية ليس فقط في أوكرانيا لجهة تخلّيها عن فكرة الانضمام إلى حلف الناتو وأن لا تكون مصدر تهديد لروسيا من خلال نشر قواعد عسكرية على أراضيها فحسب , بل إنّ هذه الشروط باتت تشمل كل دول أوروبا الشرقية المنفصلة عن الاتحاد السوفييتي كي لا تجرأ على التفكير مستقبلاً بلعب الدور الأوكراني .
ومع اندلاع هذه الحرب نجد أنّ الرهان الأمريكي والغربي على فشل الحل العسكري بحسم المعركة من خلال الدعم الذي تمّ تقديمه لكييف بمختلف أنواع الأسلحة المتطورة قد فشل حتى الآن , والرهان الثاني الذي اعتمد على العقوبات الاقتصادية الغير مسبوقة على روسيا بهدف شلّ اقتصادها وزعزعة استقرارها الداخلي وخلق أزمات معيشية تفتح مجال الاضطرابات داخل روسيا وتجبرها على التنازل عن شروطها أمام التسوية مع الغرب قد فشل فشلاً ذريعاً أيضاً, بعد أن نجحت موسكو بتحويل العقوبات الاقتصادية إلى فرصةٍ لنمو الرأسمال الوطني الروسي على خلفية القرارات الجريئة التي اتخذها بوتين في شروط بيع الغاز الروسي للدول غير الصديقة بالروبل الروسي , لتبدأ مراكمة العائدات الهائلة والسيولة النقدية الضخمة من عائدات النفط والغاز باعتبار روسيا المصدر الأول لهما في السوق العالمي .
إنّ قرار الأمريكيين والأوروبيين عدم الانخراط عسكرياً في الحرب إلى جانب أوكرانيا ضد الجيش الروسي ليس إلّا خياراً هَدَفَ إلى تثبيت وتوصيف سمة هذه الحرب على أنّها حربٌ روسية أوكرانية على الصعيد السياسي والعسكري , بينما الحقيقة الاستراتيجية لهذه الحرب تتخطّى أوكرانيا إلى تغييرٍ في المنظومة السياسية الدولية وفرض تحولات جديدة في النظام العالمي الجديد والذي تكرّس بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بزعامة القطب الأمريكي الأوحد للعالم , وليس الشق الأوكراني في هذه الحرب إلّا جانباً منها ومدخلاً لهذه الحقيقة , وقد ثَبُتَ ذلك من خلال نتائج ومصير العقوبات الاقتصادية الهائلة التي فُرضت على روسيا أمريكياً وأوروبياً والتي أعطت مفعولاً عكسياً بإصابة الاقتصاد الأوروبي بخللٍ كبير كرّسته القرارات الجريئة للرئيس بوتين من موقع القوة والقدرة على التحكم اقتصادياً بأمن القارة الأوروبية الاقتصادي باعتبار روسيا الممسك الأول بموارد الطاقة لها , وليس التعافي السريع للروبل بعد هذه القرارات هو المؤشر الوحيد على فشل العقوبات الغربية على روسيا , بل تخطّى الأمر ذلك إلى إمساك بوتين بخيوط اللعبة الاقتصادية بينه وبين الغرب بمنتهى الذكاء , إيماناً منه بأنّ هذه الحرب هي وجوديّة بالنسبة لروسيا لجهة فرض التحولات الكبيرة التي كان يرسم قواعدها منذ سنين , فشنّ هجوماً اقتصادياً مالياً على أوروبا عبر ربط بيعها للغاز بالروبل الروسي ليتصدّرَ هذا العنوان مشهد الحرب الدائرة في أوكرانيا معيداً بذلك رسم خارطة الأسواق العالمية للطاقة , وتغيير هوية النظام المالي العالمي ليُضبطَ بالتوازي على إيقاع التوافق الروسي الصيني وعلى إيقاع مواقف كل من الهند وباكستان تجاه ملف هذه الحرب , فالهند ( خامس أكبر اقتصاد في العالم ) رفضت فكرة البحث مع الغرب بنظام العقوبات الاقتصادية ضد روسيا , والباكستان حليفة أمريكا التقليدية تسجّل موقفها التاريخي أيضاً برفض العقوبات على روسيا عندما قال رئيس وزرائها عمران خان جملته الشهيرة للأمريكيين ( لسنا عبيداً عندكم ) لتصبح تلك الجملة صوتاً آسيوياً موحداً في وجه أمريكا .
من هنا نجد أنّ الحرب الروسية الأوكرانية أخذت طابع جولةٍ من جولات الصراع الروسي الأمريكي في الحديقة الخلفية لأوروبا التي أصبحت بين مطرقة الخضوع لشروط وقرارات الدب الروسي الموجعة اقتصادياً في حالة رفضها وبين سندان تحالفها مع أمريكا بتبعيّة مطلقة أوصلتها إلى تلك المواقف التي لا تُحسد عليها , فالأوروبيون أصبحوا يعلمون أنّ مفرزات هذه الحرب وإن طالت ستكون برسم معادلاتٍ جديدةٍ تتصدّر المشهدَ فيها كل الدول التي وقفت إلى جانب روسيا وخصوصاً الصين التي توقّف نجاح العقوبات الاقتصادية على روسيا على رفضها أو قبولها .
من هنا نقول أنّ المحطة الأخيرة لقطار الحرب الروسية الأوكرانية لن تكون أوروبية أو روسية أمريكية , بل هي محطة آسيوية بامتياز تفرضها التموضعات الجديدة للدول الأوروبية بناءً على مقتضيات مصالحها الاقتصادية والتحولات الجذريّة في سوق الطاقة بين أوروبا وآسيا , كما تفرضها اصطفافات الدول الآسيوية إلى جانب التحالف الروسي الصيني في وجه الولايات المتحدة الأمريكية .
وليس بعيداً بالمنظور السياسي فكرة تشكيل حلف إقليمي أمني اقتصادي في آسيا يضم روسيا والصين والهند وباكستان وإيران ليكون قلب آسيا الجديدة وقلب النظام العالمي الجديد , وتتم إعادة ترتيب كل الساحات الساخنة الإقليمية والدولية على إيقاع نتائج الحرب الروسية الأوكرانية .