حين يصيرُ الصراخ الأمريكي في أوكرانيا لأجل الصراخ و الصين مستمعٌ جيّد
اجنادين نيوز / ANN
بقلم. الكاتب والصحفي السوري
سامر كامل فاضل
اعتادت الولايات المتحدة الأمريكية خلال العقود السابقة على استخدام سياسة العربدة والبطش سياسياً وعسكرياً تجاه دول آسيا والشرق الأوسط انطلاقاً من شعورها بفائضِ قوةٍ عسكريةٍ واقتصاديةٍ تستمدها من فكرة تزعّمها للعالم كقطبٍ وحيد يرسم السياسات في كل البقع الجغرافية التي تريدها وبما يتناسب مع مصالحها ومصالح حلفائها وعلى رأسهم الكيان الصهيوني المستثمر الأول لهذه السياسات في الشرق الأوسط .
فكانت سياسة التدخل العسكري المباشر في بعض الدول مثل العراق وأفغانستان إحدى هذه العربدات التي قتلت ودمرت فيها بلداناً وشعوباً وأزالت أنظمة وأعادت دولها أعواماً إلى الوراء ، وليس ما حصل في سوريا إلا مثالاً ينضوي تحت هذه السياسات وإن لم يكن بتدخلٍ عسكريٍ مباشر فيها لكّن ذراعها لم تغب عن أيٍّ من المخططات التي نفّذها حلفاؤها في منظومة الحرب على سوريا بغية إسقاط الدولة السورية .
على المقلب الآخر لم تسلم دول آسيا من فرض العقوبات الأمريكية الجائرة بمختلف أشكالها وعلى جميع المستويات كما فعلت مع إيران وكوريا الشمالية سعياً لإخضاع قراراتها وتغيير سلوكها المناهض للسياسة الأمريكية ، لكنها فشلت بذلك وخرجت من آسيا بخفي حنين .
وإذا دخلنا في تفاصيل هذه السياسات الأمريكية وحروبها المتعددة في الشرق الأوسط وآسيا وقرأنا ما بين سطورها سنجد أنَّ أغلبها تصب بشكلٍ غير مباشر بفكرة حربٍ غير معلنة ضد الصين وروسيا لإيقاف مسيرة تطور هذين البلدين اقتصادياً وعسكرياً من خلال تطويق الصين والحد من تمددها وضرب مشروعها الواعد ( الحزام والطريق ) وإضعاف نفوذها في آسيا .
كذلك الأمر بالنسبة لروسيا إذ يهدف الغرب الى التدخل الإقليمي لاستمالة قوى إلى الحلف الأمريكي والسير في مشروعه ، وكل ذلك فشل فشلاً ذريعاً بعد عقودٍ من الحروب والسياسات الفاشلة لأمريكا في المنطقة ، وقد اعترف بذلك مؤخراً وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية في لقاء معه أنّ أمريكا أضاعت عشرين عاماً في حروب الشرق الأوسط وأسيا في حين كانت كل من الصين وروسيا تبني اقتصادها وقوتها العسكرية على نحوٍ تستعيد فيه روسيا ما كانت عليه من قوة ومكانة عالمية أيام الاتحاد السوفييتي ، والصين التي تربّعت على عرش الاقتصاد العالمي خلال هذه الفترة دون منازعٍ مع تطوير قدراتها العسكرية بشكلٍ غير مسبوق .
فكانت الوجهة البديلة لآسيا والشرق الأوسط هي أوروبا لعلّها تجد ضالّتها في الحفاظ عل صورة الغطرسة الأمريكية التي اهتزّت ، وكان الخيار في توريط أوكرانيا في حربٍ بالوكالة مع روسيا بهدف استنزاف القدرات العسكرية الروسية وإضعاف اقتصادها وهنا كانت المفاجأة، فمن الناحية الاقتصادية وبعد فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا وحظر استيراد النفط والغاز منها والذي لم تلتزم به معظم الدول الأوروبية لعدم وجود البديل ، ارتفعت مبيعات النفط الروسية بنسبة 20% عن السنوات الماضية ، وقد أدى ذلك إلى انقسامٍ في مواقف حلف الناتو والدول الأوروبية والتي رأى بعضها ضرورة إيقاف الحرب والموافقة على كل الطلبات الروسية لأنّ ما حصل هو زيادة الطلب على النفط والغاز الروسي وبأسعار مضاعفة عما كانت عليه قبل الحرب و بمعنىً آخر وجدوا أن الدول الأوروبية نفسها هي من تموّل العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا بمدفوعاتها المتزايدة ثمناً للنفط والغاز الروسي، وهذا ما أدركته كل من ألمانيا وفرنسا ، وفي نوع آخر من العقوبات على روسيا مثل حظر منصات التواصل الاجتماعي فقد أعلنت موسكو عن إطلاق منصات رقمية جديدة في روسية بديلة عن تلك التابعة لشركات أمريكية خاصة مثل منصة روستغرام كبديلٍ عن انستغرام المتداولة عالمياً .
وفي خلاصة القول نجد أنّ الصراخ الأمريكي في أوكرانيا لمحاولة تجنيد كل الدول الأوروبية ضد روسيا بوصفها المعتدية لتفعيل خطة العقوبات الاقتصادية المشتركة أعطى ارتداداً عكسياً مرآته الروبل الروسي الذي حقق مكاسباً لم يعهدها منذ سنين ، إضافةً إلى رسم روسيا لخارطة الأسواق العالمية للطاقة وتغيير هوية النظام المالي العالمي ، أمّا عسكرياً فإنّ الصراخ الأمريكي كان يعلو فقط لإقناع الجانب الأوكراني بحقيقة الوقوف إلى جانبه في هذه الحرب ودفعه للاستمرار في الانتحار السياسي والعسكري لمعركة بخوضها بالوكالة عنهم حتى آخر جندي أوكراني ، لا سيما أنّ أمريكا تدرك مسبقاً عجزها عن التدخل العسكري المباشر إلى جانب الجيش الأوكراني أو حتى تقديم المساعدة العسكرية الكفيلة بمواجهة الجيش الروسي وإيقاف تقدمه .
أما الصين فلم تكن طيلة هذه الأحداث إلا مستمعاً جيداً لهذا الصراخ الأمريكي الذي يتوزع بين الأحداث الأوكرانية تارةً وبين ملفٍ مرتقب هو إصرار الصين على استعادة الجزيرة التايوانية إلى برّها الصيني بحقيقة تاريخية لن تتنازل عنها .
وأما حقيقة هذا الضجيج الأمريكي تجاه خطوة الصين هذه فليس خافياً على الصين التي تدرك جيداً أنّ كلّ الحروب عبر التاريخ إلى يومنا هذا تعود بجذورها وأسبابها إلى مصالح اقتصادية بحتة ، فتايوان تلك الجزيرة الصغيرة التابعة تاريخياً للبر الصيني هي المنتج الأول للرقائق الالكترونية ( أشباه الموصلات ) التي تدخل في كل الصناعات الالكترونية الحديثة من أجهزة الكمبيوتر والهواتف النقالة كما تدخل في صناعة السيارات وفي صناعة الصواريخ الدقيقة والموجهة وأغلب أنظمة الأسلحة العسكرية الذكية المتطورة ذات الدقة العالية وخصوصاً التي تحتاج الرقائق الالكترونية ذات الأبعاد النانومترية الصغيرة ( 4-5 )نانومتر ، إذ تتقاسم تايوان مع شركة سامسونغ الكورية بنسبة 50% إنتاج هذه الرقائق التي تحتاجها كل دول العالم وعلى رأسها الصين المنج الأول للتكنولوجيا الحديثة والصناعات الالكترونية ، علماً أنّ هذه الرقائق تحتاج إلى مواد مساعدة لصناعتها وهي الغازات النبيلة مثل الهيليوم والنيون والتي تتصدر صناعتها كل من روسيا وأوكرانيا ، فغاز النيون المطلوب لهذه الصناعات وخصوصاً منظومات الصواريخ الدقيقة والموجهة يجب أن يكون بنسبة نقاء 99.9 % وهذه النسبة من النقاء لغاز النيون لا توجد إلا في أوكرانيا وتحديداً في أوديسا وهنا يأتي الربط بين الحدثين الأوكراني والتايواني المرتقب .
فالجنون الأمريكي من إصرار الصين على استرجاع تايوان عسكرياً والذي دفعها إلى التهديد بالتدخل عسكرياً إلى جانب تايوان إن حصلت الحرب مبنيٌ على محاولتها حرمان الصين من السيطرة على أضخم المعامل في تايوان لتصنيع هذه الرقائق الالكترونية وهذا ما تعتبره الصين قضية أمن قومي بالنسبة لها .
فتصبح المعادلات على نحوٍ تمسك فيه روسيا بمادة الغازات النبيلة الضرورية لصناعة هذه الرقائق والموجودة فيها وفي أوديسا الأوكرانية بعد أن سيطرت عليها ، وتمسك الصين بمعامل إنتاج هذه الرقائق الالكترونية إذا قامت باسترجاع تايوان إلى برها الصيني .
وهذا يفضي إلى نتيجة أنّ من يُمسك بتفاصيل وشرايين هذه الصناعات إنما يُمسك بالاقتصاد العالمي بكل أشكال الصناعات الالكترونية و التكنولوجية وحتى العسكرية منها بمنظوماتها الدقيقة .
وهذا ما تسير الأمور إليه في الحالة الأوكرانية بعد الانتصارات التي حققتها روسيا وقدرتها مستقبلاً على فرض كل شروطها لإيقاف عملياتها العسكرية في أوكرانيا ، ولن تكون النتائج في الحالة التايوانية إن حصلت بغير هذا الاتجاه ، فالصين وروسيا تسيران بخطىً ثابتة إلى تغيير النظام العالمي الجديد اقتصادياً وعسكرياً تتربعان فيه على العرش بلا منازع ، في حين تنشغل الولايات المتحدة الأمريكية بإقامة حفل التأبين لنظام القطب الواحد .