شعرية الأمكنة في (ما تشتهي خطاي) للشاعر احمد العاشور بين زاويتي التشكيل والتأويل

اجنادين نيوز / ANN

حيدر الاسدي

تشكل الأمكنة عناصر فنية وجمالية ودلالية ، وتتحول لفضاء دلالي واسع في الشعر ، مما يتيح لهذه الأمكنة ان تنتسب الى شعرية من نوع خاص ، يكون من خلالها المكان خزاناً للمشاعر الجياشة والذاكرة ، ذلك ان المكان بوصفه محفزا للشخصيات وصاحب التجربة الشعرية (الشاعر) سواء اكانت الأمكنة اجتماعية ، او طبيعية او الأمكنة ذات الدلالات التراثية والتي تحمل بين طياتها منظومة المشاعر والخيال (والاسترجاعات) اذ ان تشكيل المكان من العناصر المهمة في الشعر، ولذا يقول الفرنسي جاستون باشلار في كتابه المهم (جماليات المكان): ” ان المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن ان يبقى مكانا لا مباليا ، ذا ابعاد هندسية وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط بل بكل ما للخيال من تحيز” .كما ان شعرية المكان ترتكز على زاويتا التشكيل والتأويل التشكيل المبني على تأثيثات مؤلف النص (الشاعر) لفضاء قصيدته الشعرية ، والتأويل المرتبط (بسنن) علائقية ضمن منظومة الارسال اللغوي والتأويلي ما بين (المرسل- النص- المتلقي) لتفكيك شفرات هذا المكان وعلائقيته التأثيثية ببقية مفردات القصيدة وثيمتها المركزية ومدى تفاعل المتلقي (القار) مع كل تلك المفردات، والقارئ لديوان الشاعر البصري ( احمد العاشور) سيجد مهيمنات مكانية واضحة في اغلب نصوصه الشعرية في هذه المجموعة الصادرة 2021 ضمن سلسة ( البصرة تاريخ عريق وثقافة متجددة): ففي قصيدة ( ما الذها هناك) يقول ( في المطعم حين كنا معا
سالت النادلة
هل لي ببعض الشراب؟
قالت : غير مسموح ياسيد؟
اذن هل أعبئ روحي بسيكارة
قالت لا يسمح ياسيد)) (ص5)
المكان هنا ( انتقادية) للمحظور، ودلالة السكون الممنوع والسياق (النمطي) الروتيني لشخصية النص الذي يتساءل عن أشياء لا يمكن ان يقوم بها في ظل مهيمنات الممنوع في هذا المكان ( المغلق) والذي يفضي لهذا المنع والامتناع احياناً ضمن سياقه الاجتماعي ، والعرفي، بكل ما يحمله المكان المغلق من دلالات رافضة.
ويقول في نص ( صباح بلون الاشتهاء) ((فتحت ستائر غرفتكِ وشرعتي نوافذك
لنسمات الصباح لتلامس وجنتيك
فتزدان جمالا بلون الاشتهاء والقبل
واغصان شجرة اليوكالبتوز المبتلة بالندى
تنام على نافذتك بكل استرخاء )) ص 7
تتأزم الصورة الشعرية الرومانسية مع الفة المكان وجمالياته المتصلة بكم المشاعر من صور رومانسية في هذا الفضاء المكاني المفتوح والمشرع النوافذ ليلامس شغاف الحبيبة بلوحة تشكيلية عذبة يرسمها الشاعر منطلقاً من فضاء مكان يبعث على الحميمية والرومانسية الذي يجعل النص نابض بكم المشاعر والتي تحمل بين طيأتها الدلالة المتفتحة ضمن علائقية النص مع الاخر ( الحبيبة) دون أي قيود ضمن فضاءات مكانية منفتحة ومتفتحة وضمن شعرية مكونات مكانية ضاجة بالحيوية والحركة لتشكل صورة رومانسية باعثة على الحب والشفافية، تخرج من طابعها المكاني الى طابعها المكاني المحسوس.
وتارة يكون المكان متخيل فني ضمن فضاءات القصيدة الشعرية وهو ما يتوضح في تجربة احمد العاشور، وضمن مفترضات جمالية يوظفها مع بنية نسقية واضحة لثيمة القصيدة الشعرية كما في نص (فضاءات حائرة) على مستوى العتبة الموازية ، وعلى مستوى المفردة الشعرية فيقول :
((واستنطقي الأماكن التي افترشنا
ظلها بكل انفعالاتها
تلك الأماكن التي لم نذهب اليها بعد
استنطقي كل احاديثنا
التي لم نقلها بعد)) ص(14)
هذا الافتراض ضمن الفضاءات المكانية الحائرة ، في منظومة الوحي الشعري تركيب جمالي في بنية القصيدة نحو الخيال ونحو مسارات الروح التي تكسر حدة الأمكنة والازمنة لتحلق بفضاءات من الإيقاع الشعري والدلالي ، اخذة في مناحيها تكوين الجملة ، وتأويل المتلقي لتلك الافتراضات التي تزخر بها القصيدة الشعرية ( الإماكن التي لم نذهب اليها بعد) هو عبور مونتاجي لتفسير الدلالة وقراءة ما بعد المسطور الشعري لفهم التأويل والمراد من نص الشاعر.
وثمة امكنة المقارنة بفضاء هذه المجموعة ما بين (ساحة نوفاك) و (نخيل البصرة) لتفضي الى بؤس ان (اليخضور لن يغادرك ياوطني المخضر بلون الشهداء) نحو امكنة تثير في الشاعر وجع الأمكنة الام ، نحو امكنة متناقضة بين فضاءات مغايرة او مختلفة ، تثير في النص مشاعر (الحزن ، البؤس، استذكار الموت في الوطن الام).
والامكنة التي يغاير الشاعر من لونها وفضائها المفتوح (بالاشراقة والامل والحلم) الى (البؤس والسوداوية) لشدة ما يضيق الخناق بالبشر وهم ضمن محيط هذه الأمكنة ، كما يقول الشاعر في قصيدة (ما تبقى من زرقة البحر)
((لترينا حجم الشوارع
وقلق المارة ، ووحشة الغياب
مازلنا نطل على ما تبقى من زرقة البحر
من دون فضول….
…..
…..
وقبل ان نستلقي على اجسادنا ليلا
تركنا خلف ظهورنا البحر منكسراً
لا يمنح الطمأنينة للسواحل الممتدة على طول اوجاعنا
كل الذين لم ينجوا من الغرق
افلتوا من يد السياف
فماتوا بكبرياء من دوننا)) (ص21).
فالاحساس الفني هنا ينقل تلك الأمكنة من وظائفها الشعورية الى مصادر تظليل المعنى ، وتتحول من بؤر الانتقال من (فسح) اكثر (طمأنينة) الى مقابر (سريعة التنفيذ) لكي تحتضن كل الاحلام والعبارات لترمي بها في سلة (الأكاذيب) ضمن (سلسة التاريخ المزيف) هنا تتحول صورة الأمكنة الى دال فلسفي لا يبتعد عن واقعنا المعاش ليكون (التأويل) ضمن مسارات القراءة واضحاً متجلياً في رؤية الشاعر لما يجري في بلده من معاناة.
وشعرية الألم في صورة المكان المأزوم ، مكان الألم (المغلق) باتجاه عذاب الجسد وقيود الروح كما في نص ( ظل)
((لا احد سوي يستطيع تغيير شكل ظلي
حتى في غرفة التحقيق
اجبروني على ان اجلس القرفصاء
ليجلس فوقي الاشقياء)) (ص40) صورة الشموخ والمكابرة ، فهما تزاحمت عليك التهم والاقاويل لن ترضخ ولن تكون الا انت كما تشاء ، بعيداً عن صورة الاخر التي تشكل دلالات ضاغطة في تكوين الانسان المرتبك إزاء ما يحيط به من (اسوار) خانقة لا يمكن لجسده ان يتحرك بفضاءات الحرية دون ان تربكه تلك المعاني التي تريد ان تهيمن على معناه (هو/الشاعر).
وفي نص مواعيد مؤجلة يقول الشاعر (ما اجمل المكان الذي لم نذهب اليه بعد) (ص70) يتوضح من خلال تجوالك في نصوص هذه المجموعة كم المفردات المهيمنة على خطابه الشعري واعني خطاب احمد العاشور ، فالنوافذ المشرعة تارة ترسم لافتراضات (الحبيبة) وما يتمظهر من خلالها ، وتارة مساحات للتوجس والخيفة من القادم المؤلم والمحطم للمشاعر ، ان العاشور يطلق افتراضاته المكانية من هواجس تكمن لا شعورياً ، من تراكمات أسهمت بتركيبة خيالة وأنثيال هذه الارهاصات مع انفجار المفردة الشعرية في نصوص مجموعته هذه وربما بقية قصائده ، انها تجربة تؤشر علائقية الشاعر بالأمكنة واثرها في تكوين الصور الشعرية ، ضمن فضاءات نصوصه فالمكان في قصائد العاشور يمتلك ( انفعالات) من نوع خاص تشكل ذاكرته ولحظة انسكاب حبر مشاعره على الورق. الشاعر احمد العاشور في هذه المجموعة يشحن الأمكنة لتكون قادرة على النطق شعرياً.

زر الذهاب إلى الأعلى