مؤتمر للبناء ومؤتمر للهيمنة
اجنادين نيوز / ANN
أحمد بهاء الدين شعبان* الأمين العام للحزب الاشتراكي المصري
بضعة أيام فقط، فصلت بين انتهاء وقائع القمة العربية ـ الصينية الأولى التي عُقدت في العاصمة السعودية “الرياض” ـ (9 ديسمبر 2022)، والقمة الأمريكية ـ الأفريقية التي عُقدت بالعاصمة الأمريكية “واشنطُن”، (13 ـ 15 ديسمبر 2022).
القمة العربية ـ الصينية الأولى :
وقد شهدت القمة حواراً مُعمّقاً وناجحاً بين قادة الصين والعرب في مؤتمرهم الأول، وانتهت وقائعه إلى اتفاقات ذات طبيعة استراتيجية، تشمل منظوراً واسعاً، يكاد يُغطي أغلب القضايا التي تحتل مكاناً مُتقدماً في سُلم الأوليات لطرفي العلاقة: الصين والدول العربية، هذا على الرغم من الاختلاف بين طبيعة النظم العربية السياسية، وتباين أوضاعها الاجتماعية، والتحديات الرئيسة أمام كل منها.
والمُلاحظ لدى إلقاء نظرة مُتمعنة على البيان الختامي للمؤتمر، والذي حمل عنواناً دالاً: “إعلان الرياض” أنه أكد في ديباجته الافتتاحية على الطابع “التطوري” للعلاقة بين الطرفين، فلم تكن هذه “القمة” طفرة مفاجئة لا أساس لها أو بدون مُقدمات موضوعية، وإنما جاءت في سياق مُتصل من العمل التراكمي، مُمتدٌ لنحو عقدين من السنين، مُنذ أُنشئ “مُنتدى التعاون العربي ـ الصيني” بالقاهرة عام 2004، وصدور “الإعلان المُشترك حول إقامة علاقات التعاون الاستراتيجي بين الدول العربية وجمهورية الصين الشعبية” الذي أُطلق في مدينة “تيانجين” الصينية عام 2010، فالخطة التنموية العشرية لـ “مُنتدى التعاون العربي ـ الصيني” للمدة من 2014 ـ 2024، و”إعلان بكين” و”الإعلان التنفيذي العربي ـ الصيني” الخاص بمبادرة “الحزام والطريق” المُوقعان عام 2018، وأخيراً القمة العربية ـ الصينية الأولى مع نهايات هذا العام.
كذلك فقد حوى “إعلان الرياض” اتفاقاً واضحاً بين الطرفين حول أبرز القضايا التي تهم كل منهما، وفي مقدمتها ـ بالنسبة للأطراف الرسمية العربية ـ “القضية الفلسطينية، التي نظر إليها الطرفان باعتبارها “قضية مركزية في الشرق الأوسط، تتطلب إيجاد حل عادل ودائم على أساس “حل الدولتين”، من خلال إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وإقامة الدولة الفلسطينية المُستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية”، فضلاً عن الإشارة إلى “عدم شرعية المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية والعربية المُحتلة”، والدعوة إلى “عقد مؤتمر دولي للسلام بمشاركة أوسع ومصداقية أكثر وتأثير أكبر”، مع تثمين طرح الرئيس “شي جينبينج” لـ “الرؤية الصينية ذات النقاط الأربع” حول تسوية القضية الفلسطينية خلال مباحثاته مع الرئيس الفلسطيني “محمود عباس” يوم 6 مايو الحالي.
كذلك فقد أعلنت الأطراف العربية التزامها “الثابت” بمبدأ “الصين الواحدة”، و”بدعم جهود الصين في الحفاظ على سيادتها ووحدة أراضيها”، وأكدوا مُجدداً على أن “تايوان جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية”، وعلى “دعم الموقف الصيني في ملف هونج كونج” في إطار “دولة واحدة ونظامان”.
وعلى المستوى الدولي، اتفق الطرفان على دعم الجهود المبذولة لإيجاد “حل سياسي للأزمة الأوكرانية” يكفل “استعادة الأمن والسلام وفقاً للقانون الدولي ومبادئ ميثاق الأمم المُتحدة” و”بما يضمن المصالح الجوهرية لجميع الأطراف”؛ مع التأكيد على أهمية “تضافر الجهود الإقليمية والدولية لإيجاد حلول سياسية للأزمات والقضايا الإقليمية وفقاً لقرارات الشرعية الدولية”.
وأيضاً توافق المؤتمرون على تبنّي سياسة “النهج المتوازن “لتعزيز النمو الاقتصادي العالمي” والمُرتبط ـ بشكلٍ وثيقٍ ـ بأمن الطاقة وتوفرها، وأيضاً “تعزيز الجهود المبذولة ـ في إطار الأمم المتحدة ـ لمكافحة التغيرات المناخية”، ودعم المبادرات الرامية إلى تحقيق “التنمية الخضراء”، والسعي للوصول إلى “الحياد الصفري”.
وقد ثمَّنَ المؤتمر “المساعي الصينية في المساهمة في نشر السلام والتنمية الدوليين”، وكذا مبادرتي الرئيس “جي شينبينج”: “الأمن العالمي” و”التنمية العالمية”، وأقر بتعزيز “التبادل بين الصين والدول العربية في مُختلف الأبعاد والمستويات”، وأكد العزم على مواصلة “التشاور السياسي وتبادل الدعم بين الجانبين في القضايا المتعلقة بمصالحهما الجوهرية وهمومهما الكبرى”، ولبناء “المجتمع العربي الصيني للمستقبل المُشترك نحو العصر الجديد”، إضافةً إلى تناول قضايا أخرى عديدة، تصب جميعها في الالتزام بالعمل على توثيق أواصر العلاقة بين الطرفين، والعمل المُشترك لصيانة النظام العالمي القائم على أساس القانون الدولي، و”احترام اختيار الدول لرؤاها التنموية”، وتكريس قيم السلام والتنمية والإنصاف والعدالة والديمقراطية والحرية، … إلخ.
.. ومؤتمر “القمة الأمريكية ـ الأفريقية”:
وعلى مستوى آخر، وفيما يبدو وكأنه ردٌ على التطورات المتنامية للعلاقات الصينية ـ الروسية مع أفريقيا والدول العربية، انعقدت في واشنطن (بين 13 ـ 15 ديسمبر 2033)، قمة أمريكية أفريقية، دُعي إليها 49 من القادة الأفارقة، فيما وُصف بـ “أكبر تجمُّع دبلوماسى تشهده الولايات المتحدة منذ جائحة كورونا”، وهو “التجمُّع” الذي لم يتوان وزير الخارجية الأمريكي، “أنتوني بلينكن”، عن الكُشف عن هدفه الرئيس، بالحديث عن تَبَنِّي الولايات المتحدة لـ”استراتيجية أفريقية جديدة” الصيف الماضي، مع الإعلان عن إصلاحٍ شاملٍ للسياسة الأمريكية في دول أفريقيا جنوب الصحراء، هدفها الرئيسي “مواجهة الوجود الصيني والروسي هناك”، استناداً إلى ما تعتبره الولايات المتحدة، وحسب توصيف وزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن” خلال اجتماع في مُستهل القمة الأمريكية الأفريقية، أن نفوذ الصين وروسيا في أفريقيا: “يُمكن أن يكون مُزعزعاً للاستقرار”! (فرانس 24 / أ ف ب ـ 14/12/2022).
وحسب مصادر أمريكية شتّي، فإن الولايات المتحدة، وفي إطار محاولة حصار النجاحات الصينية والروسية في إنشاء علاقات متينة مع القارة الأفريقية الواعدة، قائمة على أُسس من الثقة وتبادل المصالح والشراكة النزيهة، قدّمت لدول القارة السمراء مجموعة من الوعود والإغراءات المُطلقة، في مُقدمتها التعهُّد بـ “تخصيص 55 مليار دولار لأفريقيا على مدى ثلاث سنوات” بهدف علاج قضايا الصحة ومُشكلات المناخ، وكذلك تَبَنِّي أمريكا للدعوة إلى تعزيز دور أفريقيا على الساحة الدولية، بمنحها مقعداً في مجلس الأمن الدولي، عبر تمثيل الاتحاد الأفريقي للقارة رسمياً، والغاية من كل ما تقدّم من تعهدات ووعود هو محاولة تضييق “فجوة الثقة”مع إفريقيا، وتبديد الشكوك المتراكمة على امتداد عقود، والتي اتسعت رلاقعتها في السنوات الأخيرة، مُسببةٌ “حالة الإحباط” الأفريقي الملحوظ من تردي التزام الولايات المتحدة تجاه القارة، العامرة بالمخاطر والتهديدات، ولكن أيضاً بالإمكانات والفرص.
وإذا وضعنا نتائج هذين المؤتمرين المتوازيين في محل المقارنة والدرس، سنجد أن غايات المؤتمر الأول، “القمة العربية الصينية”، وما تمخض عنها من قرارات ومواقف، تنهض على أُسس أكثر موضوعية وقابلية للاستدامة، ومبنية على قاعدة من التجربة التاريخية التي تتمتع بالرسوخ والمصداقية، وتتميز بالاستجابة ـ من وجهة نظر الدول العربية ـ إلى دواعي الواقع ومُتطلباته، وتُلبي الطموح العربي إلى تحقيق الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي والاجتماعي.
أما المؤتمر الثاني، “قمة أمريكا ـ أفريقيا”، فهو لم يقم على أساس من الرغبة المُخلصة في مُساعدة سُكّان أفريقيا، والبالغ تعدادهم مليار وخُمس المليار نسمة (إحصاء 2016)، يُمثلون نحو 15% من سُكان العالم، على مواجهة تحديات الوجود والمصير .. وما أكثرها، وإنما نُظِّمَ لقطع الطريق على تَمَدُّد العلاقات الصينية ـ الروسية في القارة الناهضة، والتي تجد تجاوباً واسعاً لأنها تُلَبِّي مُتطلبات دول القارة دون تدخُّل أو وصاية في شتّى بقاع القارة الواعدة، وللإبقاء على وقوع ثروات القارة البِكر وإمكاناتها الاقتصادية الضخمة تحت السيطرة الإمبريالية عامةً، والهيمنة الأمريكية.. بشكلٍ خاص.