الذكرى الثالثة والثلاثين لمأساة 20 يناير
اجنادين نيوز / ANN
بقلم : سعادة السيد إيلدار سليموف / سفير جمهورية أذربيجان لدى المملكة الأردنية الهاشمية.
تشهد جمهورية أذربيجان منذ 20 يناير عام 1990 إحياء ذكرى المأساة التي لحقت بها في ذلك اليوم، وانتشار الحزن العام، حينما اقتحمت الوحدات العسكرية التابعة للجيش السوفييتي العاصمة باكو على وجه الخصوص، بغية قمع أصوات الشعب الأذربيجاني المطالبة بالاستقلال والحرية، حيث باتت دماء الأبناء والبنات الأبرياء من شعبنا فجر 20 يناير عام 1990 تسيل في شوارع العاصمة، وذلك في محاولة يائسة من القيادة السوفييتية بهدف الحفاظ على تماسك الاتحاد السوفييتي الذي شارف قاب قوسين من الاضمحلال والهلاك، إذ أخذ الجنود المقعقعين بالأسلحة والدبابات والآليات العسكرية الأخرى، إطلاق النيران الكثيفة صوب المتظاهرين السلميين الذين كانوا يطالبون بالحرية والاستقلال عن الاتحاد السوفييتي.
في المحصلة النهائية لتلك المذبحة بحق الناس العُزل، فقد راح ضحيتها مئآت المسالمين، بينهم مئات المصابين بجروح مختلفة الدرجات، ناهيك عن الخسائر غير البشرية الفادحة، غير أن القسوة الفائقة ضد الشعب الأذربيجاني لم تسفر عن نتيجة منشودة وضعتها القيادة السوفييتية تحت رئاسة ميخائيل غورباتشوف نصب عينها، بل عززت عزيمة وإرادة الشعب الأذربيجاني إزاء نيل الاستقلال والحرية خارج النطاق السوفييتي الشمولي الإجرامي.
بلا شك، أن دراسة وتحليل الأحداث التي وقعت في مدينة باكو في 20 يناير 1990 بشكل منفصل عن العدوان الأرمني على إقليم قراباغ الآذربيجاني ما بين عام 1987 وعام 1990، حيث بدأ الأرمن بمطالبات إقليمية فى منطقة قراباغ، حيث زادت أطماعه في أراضي أذربيجان التاريخية من أجل تحقيق حُلمهم “أرمينيا الكبرى”. وحتى يتم تحقيق ذلك “الحُلم”، فقد استمر الأرمن في نشاطهم العدوانى لضم إقليم قراباغ إلى أرمينيا، حيث توسعت دائرة الحركة الانفصالية فى إقليم قراباغ.
وفقًا للخطة الموضوعة منذ زمن طويل، فقد أصدر المجلس التشريعي في قراباغ عام 1988، قراراً غير شرعي يقضي بالانضمام إلى أرمينيا برغم أن إقليم قراباغ يمثل جزءاً لا يتجزأ من أراضي أذربيجان وفقاً للقانون الدولي، كما انتهك مجلس السوفييت الأعلى لجمهورية أرمينيا الاشتراكية السوفييتية انتهاكاً صارخاً لسيادة و وحدة أراضي أذربيجان، وأصد قراره غير القانوني الذي ينص على انضمام قراباغ إلى أرمينيا الاشتراكية السوفيتية في 1 ديسمبر 1989، ثم وُضعت مؤسسات إقليم قره باغ المتمتع بالحكم الذاتي تحت سيطرة الإدارات ذات الصلة في أرمينيا.
وتجدر الإشارة إلى أنه بسبب التقاعس المباشر للمركز السوفييتى، وفي بعض الأحيان عن رعايته المفتوحة، انفصل إقليم قراباغ المتمتع بالحكم الذاتي عن أذربيجان وتم ضمه إلى أرمينيا بشكل غير قانوني، وغيّرت جميع شعارات الدولة لأذربيجان في الإقليم: “العلم الوطني، شعار الدولة، النشيد الوطني، وغيرها” إلى شعارات الدولة الأرمينية منتهكة القواعد والمبادئ الرئيسية لقانون الإتحاد السوفييتي والقانون الدولي.
أظهرت أرمينيا رسمياً ادعاءاتها ضد وحدة أراضي أذربيجان، فلا شك ان الأخطاء الكبيرة للقيادة السوفييتية والسياسة الموالية للأرمن، هي التي أدَّت إلى تدهور الوضع في أواخر عام 1988 وأوائل عام 1989، حيث اتسع نطاق العدوان الأرمني في الإقليم المتمتع بالحكم الذاتي التابع لجمهورية آذربيجان والمناطق الحدودية بين أذربيجان وأرمينيا، وأدَّت الأعمال الإرهابية التي ارتكبت في تلك السنوات إلى مقتل المئات من الأذربيجانيين المدنيين.
وفي اوائل شهر يناير 1990، قامت قيادة الإتحاد السوفييتي، برئاسة غورباتشوف، بنشر معلومات مضلِلة مختلفة لأجل إدخال القوات السوفييتية إلى مدينة باكو، بحجة أن الوضع في باكو كان خارج السيطرة، وأن الحكم السوفييتي في آذربيجان في خطر شديد، وفي 19 من يناير 1990، انتهك غورباتشوف دستور الاتحاد السوفييتي بشكل صارخ ووقّع مرسوماً بإعلان حالة الطوارئ في باكو اعتباراً من 20 يناير، لكي لا يعلم سكان باكو عن إعلان حالة الطوارئ، وتم تفجير محطة الطاقة في تلفزيون أذربيجان، في 19 يناير الساعة 7:27 مساءً، وتم إيقاف البث التلفزيوني الرسمي في الجمهورية ليلاً، فدخلت القوات السوفييتية إلى مدينة باكو دون عِلمِ سكانها بإعلان حالة الطوارئ، وتعرَّض السكان المدنيون لهجمات بلا رحمة !
لم تصل المعلومات حول إعلان حالة الطوارئ في باكو إلى السكان إلا في 20 يناير الساعة 7 صباحاً، فتم قُتل مئات الأشخاص، وأصيب أكثر 744 شخصاً بجروح خطيرة، وفُقِد مئات الأشخاص، واعتقل أكثر 800 شخص. كذالك دخلت القوات السوفييتية مدينة نفتشالا في 25 يناير، وبعد يوم واحد أيضاً، تم غزو مدينة لانكران، مِمَّا أسفر عن مقتل أشخاص مسالمين في كلا المنطقتين. وبالتالي، بلغ عدد القتلى بسبب التدخل العسكري للقوات السوفييتية في باكو ومناطق أخرى في أذربيجان رسميًا 151 شخصاً.
تُشِّكل مذبحة 20 يناير، عدواناً وانتهاكاً للقوانين والمواثيق الدولية، حيث قام بارتكاب تلك المذبحة قرابة 26 ألف جندي من الجيش السوفييتي، قاموا باطلاق الرصاص ونيران مدافع الدبابات في كل اتجاه على المتظاهرين السلميين تحت إسم إنقاذ الدولة الشيوعية من الانهيار والسقوط.
وقد ورد في تقرير منظمة شيت “منظمة الخبراء العسكريون الأحرار”، بأن قوات الاتحاد السوفييتي أطلقت النارعلى المواطنين المدنيين بقسوة ووحشية، ومن مسافة قريبة جداً، فعلى سبيل المثال تم إطلاق النار على روستاموف 23 مرة، وعلى خانحمادوف أكثر من 10 مرات وعلى يروفيج 21 مرة. كما اطلقت النار على المستشفيات وعلى سيارات الإسعاف، وقُتِل الأطباء ورجال الشرطة، حيث تم استخدام رصاص من عيار 5.45 من مدفع رشاش “كلاشينكوف”.
إن غزو قوات الاتحاد السوفييتي للعاصمة باكو، مَثَّل صدمة للشعب الآذربيجاني، ولم يتوقع أحد من أبنائه أن يكون الهجوم بهذه الوحشية والقسوة، خصوصاً وأن آذربيجان لم تُقدم للسلطة البلشيفية إلا كل خير، وأظهر الزعيم القومي الآذربيجاني الموقف الوطني المُشرِّف مُستنكِراً تلك الأحداث المأساوية، حيث أنه في 21 يناير 1990، مباشرةً بعد حدوث هذه المأساة المروعة، زار الزعيم الوطني حيدر علييف مكتب التمثيل الدائم لأذربيجان في موسكو برفقة أفراد أسرته، وأعرب عن تضامنه مع شعبه، وأدان القيادة السوفييتية بشدةٍ لارتكابها تلك المأساة الدموية، واعتبر الأحداث التي وقعت في أذربيجان انتهاكًا للقانون والديمقراطية والإنسانية، ومبادئ بناء الدولة الدستورية.
كما وصف الزعيم الوطني حيدر علييف مذبحة يناير بأنها اعتداء على الحقوق السيادية للشعب الأذربيجاني، وقال: أعتقد أن المأساة التي وقعت في 20 يناير، كانت نتيجة للخطأ الكبير الذي ارتكبته القيادة السياسية للاتحاد السوفييتي، وتحديداً غورباتشوف وطموحاته الدكتاتورية، فضلاً عن خيانة القيادة الأذربيجانية آنذاك وجرائمها ضد شعبها. فعلى حد علمي، منذ نهاية الحرب الوطنية العظمى، لم تظهر عمليات قتل جماعي بهذه الدرجة من القسوة في الاتحاد السوفييتي في أي مكان، ولا في أي منطقة أخرى.
في 20 يناير، سمع العالم بأسره الأخبار عن المذبحة المروعة في باكو. وشهد العالم التدخل العسكري للقوات السوفييتية في باكو، حيث شرع العديد من دول العالم وشعوبها الأحرار للاحتجاج، مستنكرين ذلك الغزو الوحشي. وقد أحدثت الجرائم التي ارتكبت في باكو ردود أفعال قاسية في الدول المجاورة وفي الدول العربية والإسلامية، حيث تم تنظيم مسيرات ومظاهرات منددة بتلك الأعمال الوحشية في العديد من دول العالم.
فأما فى الدول الغربية ونظرا لشعبية زعيم اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية ميخائيل جورباتشوف في الغرب، ولأن هذه الجرائم ترتكب في حق شعب مُسلِم، فإنه لم يصدر أي صوت من الدول الغربية لإدانة هذه الأعمال الدموية، مقارنة بما يحدث في أوكرانيا الآن، لدرجة خروج المتحدثة باسم وزارة الخارجية مارجريت تاتويلر ببيان نيابة عن الحكومة الأمريكية، جاء فيه أن الولايات المتحدة لا ترى ضرورة للتعليق على أحداث يناير في باكو.
وأصدرت وزارة الخارجية البريطانية بياناً اعتبرت فيه الوضع في أذربيجان شأن داخلي يخص الاتحاد السوفيتي.
وقد تجلت ازدواجية المعايير، والانحياز الغربي الجائر، إذ تم مكافأة ميخائيل غورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفييتي، بمنحه جائزة نوبل للسلام !، برغم أنه المتسبب الرئيسي في مذبحة باكو، ولا يخفى على أحد أن هذه الإزدواجية في المعايير، شكلت ظلماً واضحاً ليس بحق الأذربيجانيين وحسب، بل وبحق الإنسانية كلها، وقد اعترف غورباتشوف نفسه عام 1995، بخطئه في إعلان حالة الطوارئ في أذربيجان، وإرسال القوات السوفيتية إلى آذربيجان والسماح بالأحداث أن تسير إلى هذا الشكل الدامي.
برهنت مأساة 20 يناير علي قوة ثبات الشعب الأذربيجاني وتصميمه وإرادته الحرة، فعلى الرغم من حظر التجول الذي فرضه في حينها الجيش السوفييتي في باكو، نظَّم الشعب الأذربيجاني مسيرة حاشدة في ميدان أزادليق “الإستقلال” في المدينة في 22 يناير لإحياء ذكرى شهداء 20 يناير، وحضر مراسم الدفن في ساحة الشهداء قرابة مليوني شخص.
كان هذا الحدث التاريخي هو العامل الحاسم في تشكيل الهوية الوطنية الأذربيجانية، كما كان السبب في استعادة الاستقلال الوطني. لقد حوَّلت مأساة يناير حركة التحرير الوطني إلى واقع سياسي ودفعت الشعب الأذربيجاني إلى مضاعفة نضاله من أجل الاستقلال الوطنى.
أصبحت ذكرى “20 يناير الدامي” مرتبطة بنهاية حكم الاتحاد السوفييتي في أذربيجان وفي جميع جمهوريات الإتحاد السوفييتى السابق. حيث استعادت أذربيجان استقلالها في 18 أكتوبر 1991. ويستذكر المواطنون الأذربيجانيون أبنائهم البواسل الذين فقدوا حياتهم لأجل الوطن الغالي، ولأجل الحرية والإستقلال، وكما تُحيي أذربيجان حكومةً وشعباً مأساة “يناير الدامي”، وذكرى الشهداء الأبطال الذين جادوا بحياتهم في سبيل الاستقلال، حيث تقام مراسم الحداد في أذربيجان كل عام، في ذلك التوقيت، وتكتسي باكو باللون الأسود.
وعند منتصف نهار 20 يناير من كل عام، يقف الجميع على مستوى الدولة دقيقة صمت إحياءً لذكرى شهداء 20 يناير، وتنطلق صافرات الإنذار في السفن والسيارات والقطارات في جميع أنحاء البلاد، وتقام المراسم التذكارية في المدن والبلدات كافةً، ويتم تنكيس العَلم الوطني فوق المباني بأكملها.