فِي قَيءِ وحقارَةِ “الحياةِ”.. تحوّلُ “الحَيَاةِ” إلى الحَيَّاتِ..
اجنادين نيوز / ANN
الأَكاديمي مروان سوداح – الأُردن
ذات يوم قال العظيم غسان كنفاني: بَدَتْ لي حياتي صُدفةً فارغة لمْ يكُنْ لها أيُّ معنى، و أنَّ أخطاءَ العالم كلّها تلتقي عِندي.
وفي ثانية، قال هذا الكاتب الكبير ينعى هذه الحياة: أن هذه الحياة لا قيمة لها قط إن لم تكن دائماً واقفة قبالة الموت.. وألست ترى أن التشاؤم هو الشجاعة؟ ألست ترى أن التفاؤل هو كذب وهروب وجبن؟ أنت تعرف أن الحياة قميئة وسيئة، فلماذا تواصل الأمل بها؟
كذلك، قال الكاتب والأديب الروسي العظيم، الكسندر بوشكين: صرت كمن اشمأزّ من الحياة كلها، وهويت إلى كآبة قاتمة تزيدها الوَحْدَة، وتغذيها البطالة، وكانت العزلة تزيد حرارة حبي، فكنت أزداد ألماً وعذاباً يوماً بعد يوم، وفقدت الميل إلى كل شاغل أدبي، وأصبحت في حالة من الانهيار المَرَضِي، خشيتُ معه أحدَ شيئين: الجُنون أو المُجون.
أمَّا أنا، كاتب هذه السطور، فأرى أن الحياة لم تعد جديرة بالاهتمام والمتابعة. إن هذه الحياة إنَّما هي لا شيء حسن إطلاقاً.. هي مجرد غِشٌّ، وأكاذيب عَمَّا يُسَمَّى “العدالة”، والخير والمساواة التي لا وجود حقيقياً لها.. الحياة المزعومة تزدهر بالتعاسات، والأكاذيب والحقارات التي تمتد على وجه البسيطة في راحة تامة، لتتمكن من غيرها، فتزهق أي روح قد تعلو عليها. الحياة، وهي ليست حياة، إنَّمَا هي وسيلة تأليه ديمومة الصراعات كبيرها وصغيرها في الحروب والنزاعات وخطايا الناس المخطط لها “سلفاً”، والتي هي أضخم من حجم الانسان الذي يبقى مائِتاً في مِهن معظمنا.. لا نأكل، ولا نشرب منها، لأننا عاجزون عن إدراك سوء الحياة – الجرمية التامة، فهي توفير لا إرادي لنتوءات شرٍّ تَتَفلَّت من جُحرها. في المحصلة، الحياة، بالتالي، هي مجرد مهنة وهواية قتل ومتعة للكثيرين، بل ولغالبية الناطقين بمختلف اللغات، وهي في المحصِّلة عَمَلانيَّة مستمرة للإجهاز على الآخر ومَحْوَهُ من على وجه التراب، وتحويله إلى بودرة مطحونة بيضاء وناصعة اللون، إلا أنها كاذبة الجوهر، مُسمَّةً في كيانها المُعَد في مخازن من ورائيات العيون. الحياة صراعات قاتلة للحياة نفسها، هذا إن كان هنالك مِن “حَيَاةٍ مَا” يدَّعون بوجودها، فالحياة هي حياة عندما يبتلع فيها القوي والغني الجشع الضعفاء والمتهالكين لحماً ودماً وعظماً، ولا يبقى لهؤلاء شعرة وإن كانت بيضاء مغبرة ومتهالكة على رؤوسهم. هؤلاء المنتفخة بطونهم هم الأغلبية، يَسودون على الفقراء والمُعْدَمين وأصحاب الأسمال، ويفرضون آرائهم وأوامرهم على الكل، دون خشية من قانون ما، فهم هم القانون وحدهم، لا غيرهم من محاكم وشرطة وقوانين وغيرها، ولا خوف عندهم من انتقاد ما حتى “لآخرين ما”، وإن كانوا مِن “علية القوم”، أو من أحدهم، فحسب!
عَجباً أرى في هذه “الحياة”، وما هي بحياة، ولا حيوات فيها، بل هي الفرن المخصص لحرق الأنفس، وتدمير وإدماء الشخصية بسمومهما، أو العلاقة التوكسيك، فكلاهما مترادفان لنفس النوع من الأشخاص الجشعين، الذين نصادفهم في الحياة اليومية، ودائماً ما يلقون باللوم علينا، ونتعرض للهجوم منهم دون مُبرِّر. ربما تكون الشخصية السامة هي زوجتك، أو صديقك، أو مديرك في العمل الذي يستنزف طاقتك ويُميتها زعماً منه بنيل “حياة أفضل”!، مِمَّا يجعلنا نواجه مشاكل عصيبة في التعامل مع الآخرين، مِمَّن يسكنون الأعلى، بينما نحن في قَعْر الأدنى، مِمَّا يتسبب في توالي السوء إلى الأسوأ في حالتنا النفسية والجسدية التي لا علاج لها إطلاقاً، فلا يمكن لنا أن نُدرك تماماً ولا أن نعرف أسرار ومعلومات الحياة وشخوصها الذين يديرونها ضدنا، وصراعهم الدهري لقمعنا وتمويتنا، وتدميرنا، ونهش لحمنا بشعارات لامعة شتى، كاذبة وإن كانت جاذبة مزينة بحَبَّات لؤلؤ انتهت فعلاً وواقعاً منذ عهد بعيدٍ بعيد، وتوقف فيها تدفق الدم، وخرب النبض فيها منذ زمن طويل وسيطول..
الحياة هي السُّمُ بعينه، “إنه زمن الثعالب والثعابين والحيّات والسحالي والنهش”، فكيف والحالة اليومية هذه يمكن التعامل مع هذه “الحياة” الحقيرة بحيوتها القتَّالة والسامة والدموية؟!، التي يديرها مَن يُشِيعون أنهم بشرٌ واشخاص وأسماء طَنَّانة ورَنَّانة، تدَّعِي صلاح المجتمع، وتحاول إدارتنا نحو العلاقة والخطوة السامة – الهاوية فقط، لتثبيت التوكسيك فينا، لمزيدٍ من تعطيل أدمغتنا المُعطَّلة أصلاً وفصلاً، وتهميشها، ثم تدمير وإدماء صلاح مسيرتنا المُهَمَّشَة أصلاً، التي لا يسمحون بسيرها ولو عرجاء، كما يُريحها، وكذلك ولو لالتقاط قطعة خبز فالتة من صاحبها على قارعة شارع أو رصيف ما متآكلٍ وهشٍ، كما أشهد بأم عيني بشكل شبه يومي.. إنها حيوات تهيم على وجوهها في طرف شارع مُعتم في أجواء لئيمة حقاً، وبين أبنية عامرة بالويسكي والفودكا والعَرق، هدمها بعضها ذكاء أغنياء الجسد، ليحولوها إلى “مولات” تدر عليهم مزيداً من الذهب، والألماس، وتأخذ بهم إلى شواطئ دول الغرب الواسع، للتمتع بهواء عليل، وطعام مكسو بالذهب الأصفر الرَناَّن!
الانتهاء الفيزيائي لنا ولدى مجتمعنا البائس، الذي ننتمي له نحن البائسون، هو مطلب يومي ومشروع، فمغادرة هذه الحياة الطينية إلى الأبد، هو ذكاء محض ومطلوب، لكونه يَحفظ شخصية من يُنهيها لنفسه وللابقاء على سمو اسمه للتاريخ. فلا نفع في استمراريتها لكونها تُوَاصِلُ تُخمتها بمزيدٍ من الضربات القَتَّالة، التي لا رحمة فيها، اللهم في رحمةِ الغاب المتوحش فحسب، لكونه أكثر انعاشاً، وأشمل رحمةً وصِدقاً من غابات أحزاب الناس الفَارِعِين الدارعين!
في الواقع، لقد تحوّلت الحياة التي يدَّعون أنها حياة إلى واقع ميتَةٍ وقيء وحقارة.. لقد استحالت “الحياة” وحيواتنا إلى حَيَّاتٍ جائعات كاسرات لا مجاولة ولا محاولة لتقويمها.. والمضحك المبكي إن تقويمها فشل منذ أول لحظة في بدعة الحياة..!
.. نهاية الحياة…