الوثيقة السرية الحقيقية التي لم يتم تسريبها من “البنتاغون”
اجنادين نيوز / ANN
رامي الشاعر
كاتب ومحلل سياسي
يدور الحديث هذه الأيام حول “وثائق سرية” لوزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” تصف حالة الجيش الأوكراني وخطط الولايات المتحدة الأمريكية و”الناتو” لدعم قوات كييف.
وقد أفادت “نيويورك تايمز”، نقلا عن ممثل في “البنتاغون” قوله إن الحديث يدور حول وثائق مؤرخة أوائل مارس الماضي، مشيرة إلى أن إحدى هذه الوثائق المنشورة، والتي تحمل خاتم “سري للغاية” تصف “حالة النزاع في أوكرانيا 1 مارس”، فيما تحوي معلومات تضمنتها وثيقة ثانية معلومات مختصرة حول “12 لواء أوكراني قيد التشكيل، يبدو أن تسعة منها تم تدريبها وتزويدها بالعتاد من قبل الولايات المتحدة وحلفاء (الناتو) الآخرين”.
بالطبع كان من المنطقي والمنتظر أن تتوجه أصابع الاتهام، كما حدث يحدث دائماً، إلى روسيا، ويبدأ معسكر “هايلي لايكلي” Highly Likely في العمل (تعبير تيريسا ماي الشهير بشأن تسميم العميل المزدوج سكريبال)، إلا أن المنطق قد انتصر في هذه المرة، حيث صرح أحد الخبراء الصينيين بأنه “لو كانت روسيا هي من حصلت على هذه الوثائق السرية، لما نشرتها على الإنترنت، لأن ذلك سيسفر عن فقدان المخابرات الروسية المصادر التي قدمت لها هذه الوثائق، وليس هناك سبب لأن تخبر روسيا خصومها بأنها تلقت هذه المعلومات الاستخباراتية، لأنها ستجبرهم على تغيير خططهم”.
تقول بعض الروايات إن ذلك قد يكون ناتجاً عن انقسام سياسي داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، لا سيما بعد كل التمويلات السخية لأوكرانيا بالمال والأسلحة والذخيرة والعتاد، دون أن تكون هناك نتيجة أو أفق لما تقوم به القوات الأوكرانية على الأرض في أرتيوموفسك (باخموت الأوكرانية) أو ما عداها على طول خط الجبهة، وفي ظل انتظار لخطط هجمة أوكرانية مضادة، يزعم زيلينسكي بحسه الفكاهي المعهود إنها سوف تستهدف القرم، وربما يريد الزحف نحو الكرملين فيما بعد.
يأتي ذلك في ظل تصريح عنتري لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، أعلن فيه من واشنطن (ولا نقول أعلن وزير الدفاع أو الرئيس الأوكراني من كييف لا سمح الله!) عن أن “الهجوم المضاد للجيش الأوكراني قد يبدأ في الأسابيع المقبلة”، مؤكداً على أن الدول الغربية التي تدعم كييف “وضعت نصب أعينها القيام بكل شيء ممكن لمساعدة أوكرانيا على استعادة الأراضي”.
ترى هل يعي السيد بلينكن ما يمكن أن يعنيه هذا الهجوم المضاد، وهذه المساعدات الغربية؟
بصفتي خريج أكاديمية عسكرية سوفيتية عريقة، وأحوز تأهيلاً عسكرياً رفيعاً، أود أن أوضح للسيد بلينكن وزملائه في الدول الغربية المعنية أن ما يقوله، وفي ظل الوضع الميداني الراهن على الأرض، يعني حرفياً أنه خلال 3-4 أيام ستكون ضحايا القوات الأوكرانية ما بين 8-10 آلاف قتيل وحوالي 15 ألف جريح، ولن يسفر الهجوم المضاد عن أي تقدم، بل بالعكس، ستضطر القوات الروسية مباشرة بالقيام بهجوم مضاد ضد الهجوم الأوكراني المضاد لتدمير كل ما تبقى من عتاد استخدم ويستخدم في عملية الهجوم.
نعم، تلك هي الإمكانيات الروسية الحالية لمن لا يعرف، وحتى لو كان تعداد القوات الأوكرانية 70 ألفاً في الوقت الذي تشير فيه المعطيات الاستطلاعية إلى أن العدد الفعلي للقوات الأوكرانية التي تم تجهيزها للعملية لا يتجاوز الأربعين ألفاً.
إن قضية الوثائق السرية التي تم تسريبها، والتي صرح وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن بأنها تمثل “خطراً على الأمن القومي الأمريكي”، مؤكداً أن وزارته ستواصل التحقيق في تسريبها والتوصل إلى مصدرها، لا تشغل اهتمامي بقدر ما يشغل اهتمامي ما أعلن عنه ضباط مخابرات ومستشارين عسكريين سابقين في الجيش الأمريكي عن حصيلة مروعة لقتلى قوات كييف، وعن عجز طاقة الصناعات العسكرية الأمريكية للصمود أمام إمكانيات الجيش الروسي، الذي تقف وراءه مؤسسات صناعية دفاعية عتيدة تعمل على مدار الساعة، وتوفر للقوات المسلحة الروسية أحدث الأسلحة بوفرة وبلا انقطاع.
يعني ذلك ببساطة، يا سيد بلينكن، أن البيت الأبيض قرر التضحية بما يزيد عن 10 آلاف عسكري أوكراني خلال بضعة أيام فقط في الأسابيع المقبلة، في الوقت الذي يعلن فيه مسؤولون رسميون في وزارة الدفاع الأمريكية عن صعوبة المهام التي حددها زيلينسكي للعملية، وعلى رأسها، كما يدعي، “استعادة شبه جزيرة القرم”.
دعوني أنقل لكم وثيقة “أكثر سرية” من الوثيقة “السرية للغاية” التي تم تداولها، تتضمن السيناريو الذي يتم تجهيزه لأوكرانيا المسكينة.
لم يعد أمام الولايات المتحدة الأمريكية اليوم أي خيار آخر سوى السعي للخروج بما تبقى من ماء الوجه إثر الهزيمة التي ألحقتها بمخططاتها روسيا والصين. فلا هزيمة استراتيجية لروسيا، ولا عزلة دولية، ولا انهيار للاقتصاد الروسي، ولا قلب لنظام الحكم، ولا إزاحة لبوتين، ولا زعزعة استقرار داخل روسيا، أو استنزاف لقواتها.
وها هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شخصياً يصرح، خلال زيارته الصين، عن رغبته في أن يكون لأوروبا سياستها المستقلة عن الولايات المتحدة الأمريكية، مؤكداً أنه لا يتعين على أوروبا الانجرار وراء الولايات المتحدة في صراعها مع الصين على تايوان!
وهو ما رد عليه أحد أعضاء مجلس النواب الأمريكي بقوله: إذن فلتتعامل أوروبا مع أزمة أوكرانيا بمفردها، ولتنزع الولايات المتحدة يدها من الصراع الأوكراني.
أقول إن “وثيقتي السرية” تفيد بأن معلومات وصلت لـ “البنتاغون” بأن روسيا كانت على علم بإيعاز الولايات المتحدة الأمريكية لألمانيا للقيام بالمهمة الخاصة في اتفاقيات “مينسك-2″ الخاصة بالأزمة الأوكرانية، وكان هدفها هي وفرنسا المشاركة الصورية في تلك الاتفاقيات، بمساعدة الأمم المتحدة، بغرض المماطلة لكسب الوقت، على أمل أن تقوم المعارضة الروسية الممولة من الغرب بزعزعة استقرار روسيا، أو لربما يستولي عملاء المخابرات المركزية الأمريكية على الكرملين، وإعداد أوكرانيا عسكرياً لخوض حرب ضد روسيا. كان بوتين، رجل المخابرات المخضرم، وقيادته يعرفون ذلك جيداً ويستعدون له طوال هذه السنوات.
لهذا لم تسفر تلك المحاولات البائسة للمخابرات المركزية الأمريكية من ناحية، و”البنتاغون” من ناحية أخرى عن أي نتائج سوى الإيقاع بعشرات الآلاف من الضحايا، وأي تورط راهن لـ “الناتو” في الصراع الأوكراني سيسفر عن كارثة أوروبية محققة، وفي حال حدوث صدام بين “الناتو” وروسيا، فإن روسيا ستدمر دول أوروبا المتورطة عن بكرة أبيها.
تفيد “وثيقتي السرية” بأن “البنتاغون” أبلغ مؤخراً البيت الأبيض أن روسيا حققت وتحقق أهدافها من العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، ولا يمكن لأي قوة أن تجبرها على التراجع، وعلى الرغم من أن السيد بلينكن في الإدارة الأمريكية الحالية يعي ذلك تماماً، إلا أنه قرر في نهاية المطاف أن يضحي بعشرة أو بضع عشرات الآلاف من العسكريين الأوكرانيين، كي يبرر في نهاية المطاف ضرورة إيقاف هذه الحرب، بعد أن استنفدت واشنطن كل مساعداتها لأوكرانيا الكسيحة، أو ما تبقى منها، ولا تلوح في الأفق أي إمكانية لـ “استعادة” أوكرانيا لأي من الأراضي، ناهيك عن أن هذه الأراضي تعود تاريخياً وقومياً وعرقياً وثقافياً لروسيا بالأساس، ولم تفعل روسيا سوى استعادة أراضيها التاريخية، دفاعاً عن مواطنيها الروس، الذين سجنتهم الأحداث الجيوسياسية خلال العقود الثلاثة الأخيرة داخل دولة تمارس ضدهم التمييز العنصري والاضطهاد والقمع والقتل على الهوية، ولم تفعل شعوب تلك المناطق سوى ما تقره قوانين الشرعية الدولية في حق الشعوب لتقرير مصيرها، وبعد استفتاءات شرعية قررت تلك الشعوب أن مستقبلها مع روسيا وليس مع أوكرانيا.
تؤكد “وثيقتي السرية” أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبرباطة جأشه المعهودة، انتظر سنوات طويلة، دون أن يتحرك، وحذّر هو وجميع قياداته على المستويات كافة، مراراً وتكراراً في إطار محاولات مضنية لإقناع نظام كييف بالالتزام باتفاقيات مينسك، من أن أوكرانيا “لن تعود إلى ما كانت عليه إذا ما تم تصعيد الأمور، ولن تعود إلى حدودها السابقة”، إلا أن النظام في كييف أصرّ على التصعيد والمواجهة، أملاً منه في أن تقف وراءه أوروبا ويقف وراءه “الناتو” و”البنتاغون”، وقد كان. وقفوا جميعاً وراءه، لتصبح النتيجة تحديداً ما وصفه الرئيس بوتين، وأصبحت أوكرانيا القديمة في خبر كان، ولن يتمكن شركاؤها الغربيون سوى من الحفاظ على “ما تبقى منها” بعد أن تحصل بولندا، وربما دول أخرى، على أجزاء منها، كانت هي الأخرى تاريخياً تنتمي لتلك الدول. ولا عزاء للمهرجين والحمقى.