قراءة في تقرير أعمال الحكومة الصينية أمام الدورتين السنويتين 2024
اجنادين نيوز / ANN
مجلة الصين اليوم
أحمد سلام
المستشار الإعلامي الأسبق بسفارة مصر لدى الصين.
تُعد الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، كما أنها حققت إنجازات كبيرة في العديد من المجالات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والثقافية والدبلوماسية وغيرها من المجالات الأخرى. وتكمن التجارب التنموية الصينية في الدورتين السنويتين، حيث يتناول تقرير عمل الحكومة الموضوعات الرئيسية الصينية.
وفي حقيقة الأمر، فإن الدورتين السنويتين ليستا مجرد حدث سياسي كبير ومهم في الحياة السياسية في الصين، ولكنهما أيضا نافذة مهمة للعالم الخارجي للتعرف على الصين وفهم الدولة التي تخطو بخطى واثقة نحو مصاف الدول العظمى، خاصة وأنها لعبت دورا كبيرا في الشؤون الدولية والإقليمية خلال السنوات العشر الأخيرة، وفي ظل بزوغ عالم متعدد الأقطاب.
ويصادف العام الحالي 2024 الذكرى الـسنوية الخامسة والسبعين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية، والذي يمثل سنة حاسمة لتحقيق الأهداف والمهام ضمن الخطة الخمسية الرابعة عشرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الوطنية (2021- 2025).
إن قراءة المشهد الخاص بفعاليات الدورتين السنويتين يشير إلى أنهما جذبتا انتباه كافة قادة الدول والمسؤولين الرسميين، وكذا وسائل الإعلام الأجنبية. حيث تابعت كافة وسائل الإعلام المحلية والدولية “تقرير أعمال الحكومة الصينية” بكثير من الاهتمام.
أهمية الدورتين داخليا وخارجيا
حظيت الدورتان السنويتان 2024 بأهمية خاصة، ليس بالنسبة للصين فحسب، وإنما أيضا بالنسبة لكافة دول العالم، لاسيما وأنه يتم خلالهما الكشف عن سياسات وخطط الصين خلال عام مقبل على المستويين الداخلي والخارجي.
فعلى المستوي الداخلي، يتم خلال الدورتين وضع الخطوط العريضة لسياسات الصين المتعلقة بالعديد من المجالات، ومن أبرزها الاقتصاد والتنمية والتجارة والدفاع والمجتمع والبيئة، إلخ. وذلك بهدف العمل بنشاط على استعادة النمو الاقتصادي وتحفيز خلق فرص العمل، والسعي الجاد لحل المشكلات التي يواجهها المجتمع الصيني.
أما على المستوى الخارجي، فإن الخطط المشار إليها تتضمن الإفصاح عن أبرز توجهات السياسة الخارجية للصين في إطار علاقاتها مع العالم الخارجي، سواء على صعيد علاقاتها الاقتصادية مع دول العالم، أو على صعيد توجهات سياستها الدفاعية للتعامل مع التحديات الأمنية للبيئتين الإقليمية والدولية.
ومن هنا، فإن كافة دول العالم تنظر بكل اهتمام للقرارات والرؤى التي يتم الكشف عنها خلال الدورتين، خاصة في ظل انعقادهما في سياق ظروف عالمية معقدة ومشكلات اقتصادية وحروب، كالأزمة الأوكرانية وحرب إسرائيل في غزة، وغيرهما من الأزمات العالمية.
وعلى الرغم من النجاحات المهمة التي حققتها الدبلوماسية الصينية تجاه علاقات الصين مع العالم الخارجي، فإنها واجهت تحديات خارجية عديدة شملت العديد من المجالات، ولاسيما السياسية والاقتصادية والعسكرية، وهي التحديات التي كانت لها انعكاساتها على مناقشات الدورتين، وما تمخضتا عنه من مخرجات ونتائج. ولعل من أبرز هذه التحديات التوتر الملحوظ في العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي تنظر إلى الصين خلال السنوات الأخيرة كمنافس إستراتيجي لها، ودخول الأزمة الأوكرانية عامها الثالث، وكذا الحرب الإسرائيلية على غزة، وقد قامت الصين بطرح موقفها من التسوية السياسية للأزمتين.
أبرز مضامين تقرير أعمال الحكومة
عرض رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ تقرير أعمال الحكومة أمام الدورة الثانية للمجلس الوطني الرابع عشر لنواب الشعب الصيني في الخامس من مارس 2024. وقد جاء التقرير في قرابة خمسين ورقة، وتضمن شرحا لما تم إنجازه خلال العام الماضي، وما سيتم العمل عليه خلال العام الحالي 2024، وخلص التقرير إلى نقاط مهمة وواضحة، أهمها الإشارة إلى أن الصين ستوسع الانفتاح وستعمل على رفع المستوى وتعزيز المنفعة المتبادلة والنتائج المربحة للصين والعالم، ومن أهم هذه المضامين ما يلي:
(1) على الصعيد الاقتصادي الداخلي، أكد التقرير على المضامين المهمة التالية:
استعادة تعافي الاقتصاد الصيني: وذلك من خلال تعزيز بناء منظومة الصناعات الحديثة بقوة والإسراع في تطوير قوى إنتاجية جديدة النوعية، والدفع قدما بتحسين وترقية سلسلتي الصناعة والتوريد، وتطوير الصناعات الناشئة والأخرى المستقبلية بنشاط، ودفع التنمية المبتكرة للاقتصاد الرقمي على نحو معمق. فضلا عن التركيز على توسيع الطلب المحلي ودفع تحقيق الدورة السليمة اقتصاديا، وتحفيز النمو المستقر للاستهلاك، وتوسيع الاستثمار الفعال بنشاط.
وهي المعاني التي أشار إليها الرئيس الصيني شي جين بينغ، وهو أيضا الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني ورئيس اللجنة العسكرية المركزية، أثناء مشاركته في مناقشة مع زملائه المشرعين من مقاطعة جيانغسو شرقي الصين، وذلك تأكيده على ضرورة تطوير قوى إنتاجية جديدة عالية الجودة وفقا للظروف المحلية، ودعوته أيضا إلى التركيز على التنمية العالية الجودة كأولوية قصوى، وضرورة بذل الجهود لتعزيز الابتكار ودعم الصناعات الصاعدة واعتماد خطط تطلعية لتطوير الصناعات الموجهة نحو المستقبل وتحسين النظام الصناعي الحديث.
تأكيد صلابة الاقتصاد الصيني: حدد تقرير أعمال الحكومة هدفا لنمو الناتج المحلي الإجمالي بنحو 5% للعام 2024. وقد تم تحديد هذا الهدف بعد أن أظهر الاقتصاد الصيني صلابة ومرونة في عام 2023، حيث سجل نموا بنسبة 2ر5% على أساس سنوي. ويتوافق معدل النمو هذا مع أهداف الخطة الخمسية الـرابعة عشرة وهدف تحقيق التحديث بشكل أساسي. كما يأخذ في الاعتبار إمكانات النمو والظروف الداعمة للنمو، ويعكس المطلب المتمثل في السعي وراء التقدم وبذل جهود دؤوبة لتحقيقه.
الإقرار بوجود صعوبات وطرح حلول لمواجهتها: أشار التقرير إلى الصعوبات والتحديات المتعددة التي تواجهها البلاد، مثل عدم وجود أساس متين بما فيه الكفاية للتعافي والنمو الاقتصادي المستدام ونقص الطلب الفعال. كما ذكر التقرير أنه سيتم اتباع سياسة مالية استباقية وسياسة نقدية حكيمة بشكل مستمر في عام 2024. كما تم الكشف عن مجموعة من التدابير لتعزيز النمو للعام الجاري، بما في ذلك إصدار 9ر3 تريليونات يوان (الدولار الأمريكي يساوي 1ر7 يوانات تقريبا حاليا) من السندات ذات الأغراض الخاصة للحكومات المحلية، وإصدار سندات خزانة خاصة طويلة الأمد للغاية. وفي الوقت نفسه، ستعالج البلاد الأعراض والأسباب الجذرية لنزع فتيل المخاطر في قطاع العقارات وديون الحكومات المحلية والمؤسسات المالية الصغيرة والمتوسطة الحجم للمحافظة على الاستقرار الاقتصادي والمالي الشامل.
الخطوات الرئيسية الداعمة للنمو لدفع الاقتصاد وتحفيز الاستهلاك: أشار التقرير الي أن الصين ستطلق برنامجا مدته سنة لتحفيز الاستهلاك، وستطلق سياسات لتعزيز الاستهلاك الرقمي والصديق للبيئة والمتعلق بالصحة، وزيادة الاستثمار الفعال. وفي عام 2024، سيتم تخصيص سبعمائة مليار يوان في ميزانية الحكومة المركزية للاستثمار، وحدد التقرير سلسلة من المهام لتحديث النظام الصناعي وتطوير قوى إنتاجية جديدة بوتيرة أسرع، بما في ذلك تحسين وتحديث سلاسل الصناعة والإمداد، وتنمية الصناعات الناشئة والصناعات الموجهة نحو المستقبل، مثل الطاقة الهيدروجينية والمواد الجديدة والتصنيع البيولوجي ورحلات الفضاء التجارية وتكنولوجيا الكم وعلوم الحياة.
(2) على الصعيد الاقتصادي الخارجي، أكد التقرير على المضامين المهمة التالية:
ضرورة توسيع نطاق الانفتاح العالي المستوى على الخارج: وذلك بدفع تحقيق المصالح المتبادلة والفوز المشترك، ودفع الارتقاء بجودة التجارة الخارجية والمحافظة على استقرار حجمها. وأكد التقرير تصميم الصين على توسيع الانفتاح الرفيع المستوى وتقاسم فرص التنمية مع العالم، ومواصلة التمسك بمفهوم الانفتاح، وتعزيز التعاون المتبادل المنفعة مع الدول الأخرى، وتحقيق التنمية المشتركة.
مضاعفة الجهود لجذب الاستثمارات الأجنبية: في مواجهة التحديات التي تواجه تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى الصين، أكد تقرير أعمال الحكومة اعتزام الصين تعزيز الجهود لجذب الاستثمار الأجنبي، ومواصلة تقليص القائمة السلبية لوصول الاستثمار الأجنبي، وإلغاء القيود المفروضة على وصول الاستثمار الأجنبي في قطاع التصنيع بشكل شامل، وتخفيف الوصول إلى أسواق الاتصالات السلكية واللاسلكية والصناعات الطبية، وغيرها من صناعات الخدمات، وكذلك تعزيز ضمانات الخدمة للاستثمار الأجنبي، وبناء العلامة التجارية “الاستثمار في الصين”، وجعل الأمر أكثر ملاءمة للأجانب للقدوم إلى الصين للعمل والدراسة.
البناء المشترك العالي الجودة لـ”الحزام والطريق”: أكد التقرير علي أهمية العمل علي تعزيز البناء المشترك العالي الجودة لـ”الحزام والطريق” ليكون عميقا وعمليا، وتنفيذ الإجراءات الثمانية لدعم البناء المشترك العالي الجودة لـ”الحزام والطريق”، ودفع التعاون بشكل مطرد في مجال المشروعات الكبرى، وتنفيذ عدد من المشروعات “الصغيرة ولكن الجميلة” لسبل عيش الناس، والعمل بنشاط على تعزيز التعاون في المجالات الرقمية والابتكار والصحة والثقافة والسياحة والحد من الفقر وغيرها من المجالات.
تعميق التعاون الاقتصادي الثنائي والمتعدد الأطراف والإقليمي: وذلك من خلال تعزيز تنفيذ اتفاقيات التجارة الحرة الفعالة، والتفاوض بشأن اتفاقيات التجارة الحرة واتفاقيات الاستثمار العالية المستوى مع المزيد من الدول والمناطق. والمشاركة الشاملة والعميقة في إصلاح منظمة التجارة العالمية، وتعزيز بناء اقتصاد عالمي مفتوح، والسماح بمزيد من نتائج تعاون الكسب المشترك لصالح شعوب جميع البلدان. فالانفتاح يجلب التقدم، والتعاون يخلق المستقبل. ولا شك أن المُحافظة على استقرار الاقتصاد الصيني ينعكس إيجابا على الاقتصاد العالمي، والصين كثاني أكبر اقتصاد في العالم لها تأثير واضح في ضمان استقرار الاقتصاد العالمي والتأثير بشكل إيجابي عليه، وتأتي الدورتان السنويتان لترسمان للعالم الهدف الاقتصادي للصين، مما يُمكن الاقتصادات العالمية من رسم خططها بناء على تأثير الاقتصاد الصيني. وبما أن الأرقام المحققة للاقتصاد الصيني إيجابية لحد كبير في ظل التوترات العالمية، فهذا سيرفع من التقديرات الاقتصادية العالمية للعام الحالي 2024.
مخرجات مهمة داخليا وخارجيا
تعاملت الدورتان السنويتان بإيجابية في مواجهة التحديات العديدة، وهو ما تجلى فيما أكدت عليه من مخرجات مهمة، داخليا وخارجيا. فعلى المستوى الداخلي، ومن خلال استقراء تقرير أعمال الحكومة أمام الدورتين، يمكن الإشارة إلى النتائج المهمة التالية:
على مستوي التنمية الداخلية: أكد التقرير على ضرورة العمل على تحسين التوظيف داخل الصين وإعطاء الأولوية لتعزيز توظيف الشباب ولاسيما خريجي الجامعات، ودعم الطلب على المساكن الجديدة والمحسنة، وحل مشكلات السكن بالنسبة للسكان الجدد والشباب في المناطق الحضرية، وتعزيز التنمية العالية الجودة للتعليم الإلزامي وإدماج المناطق الحضرية والريفية، وتعزيز ضمان خدمات الشيخوخة وتحسين نظام سياسة دعم الأمومة، وهذا يُبين الاهتمام الواضح من قبل الحكومة الصينية بالعمل على توظيف قدراتها لتحسين حياة الشعب داخليا.
على المستوي الخارجي: كانت هناك رسائل وأهداف مهمة وواضحة، لعل من أبرزها:
استمرار اندماج الصين في الاقتصاد العالمي: فقد جاء في التقرير الاستمرار في العمل بالتدابير الحالية لتخفيض الضرائب والرسوم واسترداد الضرائب وتأجيلها، وتشجيع الاستثمار الأجنبي، وحماية حقوق الملكية للمؤسسات الخاصة ومصالح رواد الأعمال وفقا للقانون، بالإضافة إلى تشجيع ودعم تطوير ونمو القطاع الخاص والمؤسسات الخاصة، وهذا سيعمل بشكل مباشر على تحسين البيئة الاستثمارية الصينية، مما سيعزز اندماج الاقتصاد الصيني مع كافة الاقتصادات بشكل إيجابي.
الرفض الحازم لما يُسمى بـ”استقلال تايوان”: أكد التقرير بشكل واضح ولا لبس فيه معارضة ما يُسمى بـ”استقلال تايوان” بشكل حازم وتعزيز إعادة التوحيد، وتعزيز التنمية السلمية للعلاقات عبر المضيق، ودفع عملية إعادة التوحيد السلمي للوطن الأم.
المحافظة على الأمن القومي الصيني وحمايته من أي تهديدات أو مخاطر خارجية: وقد تجلى ذلك في المخصصات التي قررتها الحكومة الصينية بشأن الأمن والدفاع خلال عام 2024، والتي ستزيد بنسبة 2ر7% مقارنة مع العام السابق، وذلك إدراكا منها لتزايد المخاطر الخارجية التي تحيط ببيئة الأمن الصيني إقليميا ودوليا.
خلاصة ما سبق، أن الدورتين السنويتين تُمثلان مفتاحا أساسيا ومهما لفهم الصين وتوجهات حكومتها المستقبلية، كما أنها حقا فرصة أمام العالم لتعميق فهم الصين والنظام السياسي فيها. إضافة إلى التأكيد على أن جمهورية الصين الشعبية تسعى وتتبع أسلوبا تنمويا سلميا، فالحلم الصيني مرتبط بالمصالح والتنمية المشتركة بين شعوب العالم، ويؤكد ذلك مبادرة “الحزام والطريق”، ومبادرة التنمية العالمية، ومبادرة الأمن العالمي، ومبادرة الحضارة العالمية، وبناء رابطة المصير المشترك للبشرية، وغيرها من المبادرات والمفاهيم الأخرى، فجميعها يهدف إلى إظهار رغبة الصين في تعزيز الانفتاح للعالم باستمرار. ويؤكد ذلك أيضا ما تقدمه الصين من مشروعات واستثمارات في شتى أنحاء العالم للعمل على نمو وازدهار الدول النامية والفقيرة، والعمل بمبدأ المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، حيث تعاونت الصين مع كافة دول العالم، وكذا المنظمات الدولية، وسعت جاهدة لتقديم يد العون للعديد من الدول، ونحن في عام 2024 ننتظر النتائج الإيجابية للدورتين بالنسبة لدول العالم كافة.