شجون عراقية:(مذكرات مقاتل في حافلة نقل عامة).

اجنادين نيوز / ANN

بقلم د كريم صويح عيادة.

في ليلة23 كانون1 من عام 1990، ركب في الحافلة نوع نيسان المنطلقة من بغداد الى الكويت وفيها حوالي60 شخصا بدل ال40، ، معظمهم من العسكر وقليل من المدنيين، ثلثهم كان واقفا..كنت جالسا وعلى يميني امرأتان محتشمة كل واحدة بعباءة سوداء كحظ العراقيات، لم يتوقف شلال الدموع من عيونهما الا مناديل الورق المبللة، بكاء دون أنين الا من نشجات تصدر بين الحين والاخر على استحياء، والسبب أبن الاولى وزوج الاخرى الجريح او الشهيد!!، وعلى المقاعد التي خلفي أصوات جنود شباب يتبادلون الضحكات على نكات بعضها خارجة عن الذوق(قال لاحدهم الرجل الخمسيني؛ انت مربى!؟ اجابه الشاب بهدؤ؛ لا كيمر، لتتعالى الضحكات)، كما يتسرب من المقاعد البعيدة نغمات من مقدمة(الحب كله) للسيدة ام كلثوم او “الطير المسافر” لنجاة او “عبرت الشط” لكاظم الساهر من أذاعة مجهولة مصدر البث، هكذا بالحروب!؟، استمرت تلك الالحان طوال ساعات السفر ولم يوقفها الا صوت المنشاوي وهو يقرا ايات من الذكر الحكيم من مسجل السائق.
على اليسار مني الرجل الخمسيني يتحدث بصوت عال عن كرامة الشيخ او السيد الفلاني..الذي شافى ابنه من مرض السرطان المنتشر بعد ان عجز الاطباء من علاجه، و…و..، وخلفه شخصان يتبادلان النظرات والابتسامات التي تستهزأ به وهم يتحدثان بهمس مسموع عن الفارق بين فلسفة نيتشة وسبينوزا، لا اعرف سبب ذاهبهما للكويت لان مظهرهما لا يوحي كونهما من العسكر ولا من الذين يشترون ويبيعون السلع الكويتية او من الذين يفرهدونها !!.

سائق الحافة يحاول زيادة السرعة وكأنه يسابق الزمن عكس ما يريد الجميع كي يصلوا فجرا وليس ليلا لمقراتهم، لا يتوقف الا في نقاط التفتيش الكثيرة والمذلة وخاصة للركاب العائدين لبغداد، وكذلك عندما صاح مساعده بصوت اجش فيه تهديد ووعيد هناك نقص بالاجرة لراكبين كان احدهم ذلك الرجل الذي يتحدث عن الكرامات..،الطريق طويل وعلى جانبية صور واقوال القائد الضرورة، والتي ذهبت هباء منثورا بعد احداث الانتفاضة الشعبانية او احداث الغوغاء كما يسميها النظام سابقا..بدأ الوقت يقترب من منتصف الليل واول النازلين قرب مستشفى الزبير السيدتان اللتان على يميني، وكلما توغلت الحافلة اكثر في صحراء الكويت أزداد الظلام والبرد، وكثر الذين ينزلون منها جماعات وفرادا وفي وجوهم نظرات الوداع للاهل والوطن وربما للحياة، لم يملك معظم العسكر علامة دالة على وحداتهم في تلك الليلة المظلمة الممطرة الا القول لصاحب الحافلة “نازل قبل او بعد محطة تحلية مياه العبدلي واستراحة الطريق رقم..، كنت واحد من الذين أفترشوا الارض المبللة واستخدموا حقائبهم كوسادة وتغطوا بقماصلهم العسكرية لطلوع الفجر في حفرة من الرمل على مسافة من جانب الطريق خوفا من الحيوانات المفترسة والمقاومة الكويتية التي بداءت تنشط في تلك الايام..
قدر العراقيون مسؤولين وافراد ان يجربوا النوم في الحفر.
اللهم احفظ العراق وشعبه وكل بني الإنسانية.

زر الذهاب إلى الأعلى