إسقاط .

اجنادين نيوز / ANN

بقلم زينب عبدالكريم التميمي

لا أعرف أي يوم من الأيام أصبحت فيه، هنا الزمن مختلف يمر بطيئا فيتلاشى عندي المعنى للدقيقة ، ها هي كتاباتي ورسومي تملأ الجدران، هنا حرف.. هناك قلب ..
هنا دارمي.. هناك ابوذية.. ومابينهما بعض الفصحى . اختلف كل شيء عندي منذ لحظة دخولي هنا، اااه… ذلك اليوم اللعين الذي قررت فيه.. أن أكون.. .

برد الغرفة استلب ذاكرتي إليه وإلى ذاك الركن البعيد القريب فيها فها هو عقلي يحتضن اللحظة الشبيهة بالان مع فارق الزمن ، لاح لي جدار غرفتي المتهالك وانا أعد الخرائط المحفورة بفعل دودة الأرضة التي تكونت على شكل جيوش، أهزمها بأناملي و تهزمني بالقشعريرة التي تنتابني كلما دبت على يديّ.. تسلية أدمنتها منذ الصغر حين كان والدي معي فيقوم هو بحرقها أو رش الدواء عليها بينما كنت أداعبها بأعواد الثقاب لأملأ علبتهم بأعداد منها ولا ينتهي الأمر إلا بتوبيخ أو ضربة منه . تتوالى الصور … الغرفة هي هي، يتوقف المشهد عند رحيل أمي، قساوة عمتي، ووحدة أبي
.. لم تكن لي القدرة كطفل في السادسة لتحمل كل هذه المآسي حتى بعد السنوات الستة من رحيله هو الاخر وأنا أدخل السابعة عشر من عمري .

-عدتُ لبيتنا لم يتغير من معالمه سوى تزايد أعداد الدود الذي امتد ليأكل الباب والشباك المنتظران أجلهما ليسقطا مثلما سقطت أشياء أخرى كثيرة، السرير الذي كان يطعنني بأزيزه كلما أدرت جسمي أو حركته و فراش جرده الزمن من كل وسائل الراحة حيث القطن المتلملم الذي شكل تضاريسا تحت ظهري . كنت أعدّ ساعات الليل المضني علّهأ تفرج عن صباح مختلف لكن مع أمنيتي أن لايخلو من العم عبدالله مؤنسي الوحيد وأبي الروحي، ذلك الرجل الذي لم تستطع الدنيا اقتناص ابتسامته رغم مرارة الوضع براتبه التقاعدي البخس بعد حل الجيش القديم وما يتحصله من عمله في المرآب وغسيل الكلى المتكرر لابنته .
تملكتني تفاصيل صغيرة
انتشت ذاكرتي بها هكذا نحن الفقراء نستشعر الفرح بالوجع..نستحلي مرارته مع من نحب وهذا ما استشعرته معه،
كانت وحدة البيت وصخب التفكير وازدحام المرآب كما توبيخ ورزالة البعض قد أفقدوني لذة الاحساس بالحياة. فكرت بالانتحار مرارا ، وحده بكلماته كان يعدلني عن القرار
: لاتستعجل الموت هو يجيلك يركض، فتأخذه ضحكته المكسورة بعيدا بعينيه المغرورقتين ليعاود الكلام
: الموت يحبنا ..يجي لاتخاف هيج هيج انت ميت .. ليش تموت كافر. هكذا هو العم عبدالله مازالت ملامحه تشعل رغبة الحنين الى حضنه أتذكره جيدا الان، ياخذني الشوق إليه هناك حيث المرآب وحيث ذاك اليوم البائس . كان حزنه أكبر من وجعي نفسه ومن سياط ضرباتهم المتوالية عليّ ،
ذاك اليوم ليتني استطعت انتزاعه من سجل تأريخي،
صورته تنساب امامي ببطىء قاتل ، المرآب ممتلىء، سيارات فارهة تحمل أرقاما فريدة أغلى من سعرهن الأصلي، متشابهات بإثارة دهشتي وتساؤلاتي : متى سيكون لي نصيب ؟
صاحب السيارة السوداء الجي كلاس يرمي بالمفتاح بوجهي مع كلمته المعهودة
:صفّها .
كما كل يوم وبدون حتى إلقاء التحية يتجه نحو شركته في الطابق الثالث،أبدا لم يفلح بابداء مظهر التحضر والرقي رغم محاولاته في اظهار العكس، لبس البدلات الغالية الغير منسقة الالوان والعطور ذات العبق الدهني رغم فوحانها حتى قصة شعره المدهن المقززة وتلك السيارات الفخمة التي يغيّرها بين حين واخر كلهم لم يبدلوا من حقيقته فلعلمي أنه لم ينهِ الابتدائية، حتى أنه تلكأ في كتابة اسمه حين طلب مختار المنطقة جدولا بأسماء ساكني البناية، ذاك اليوم كان مختلفا جدا لم أكد أنهي عملي ، غمرني شعور الرغبة في أن أكون ..أكون ماذا … لا أعرف، كنت أسمع أبي يقولها ، كان متعلما ومثقفا
لم يمهله الموت متسعا ليعلمني.
– جاءني القرارسريعا …
استعارة الجي كلاس ،لا أحد سيحس، الجو تموزي والساعة الثانية ظهرا، هو يغط مع سكرتيرته بشهواته كما منوالهما كل يوم ينزلان بعد ساعة أو ساعتين بعد خروج الموظفين .
:هي فرصتي .. إذن هذا ماقررت .
صعدتها…ضغطت على بصمة التشغيل وكأني ضغطت كل سنوات التعب التي انزاحت مع نسمات التبريد التي ضربت وجهي.. الشارع الأول، الثاني، ستون ..ثمانون …مائة …زادت سرعتي وأنا أجوب الشوارع الواحد تلو الاخر..أمي، أبي، الجدران، الأرضة، مدرستي الابتدائية كلهم حضروا الان.
الأخلاق، الشرف، الحلال والحرام ،كلمات أبي
أين أنا منها ؟ زاوية ضيقة تلك التي أنظر منها، راودتني فكرة سرقتها وبيعها
:الفرصة تأتي مرة واحدة ، هكذا حدثت نفسي ألّا أن طيف أبي وكلماته لم يتركوني
:المرء بلا أخلاق إناء ماء
نجس لايطهر ميتا …
لم يكن يعرف ان النجاسة هو مانعيشه ومأساتنا …نحن الميتون، الحياة لهم .. ليتك كنت حاضرا لترى بأم عينك مايحدث اليوم .
لأول مرة تضيق بي الشوارع رغم اتساعها وتفرعاتها فقد انتهت بسرعة كما انتهت شهوتي في السياقة ورغبتي في أن أكون ..عدت وفي نفسي خيبة أنني فشلت حتى في تحقيق الرغبة فكيف لي أن أكون .. عدت لأجد المرآب
يضجّ بالصياح، الشرطة تملأ المكان ، صفعني أحدهم ثم أخرى من صاحب الشركة وهو يصرخ بوجهي …أنت السارق ..أنت السارق… وتوالت
الضربات ،لم يفهموا رغبتي حاولت مرارا أن أبعدهم وأشرح لهم لم يمنحوني الفرصة، أجبروني.. عاد مالك السيارة لضربي على رأسي أطاح بي بالسب والشتيمة وما ان سمعت كلمة.. أمك..حتى
لففت يديّ حول عنقه ضغطت وضغطت وضغطت لم يستطع أحدا إفلاته مني …
مرت الأيام، الجدران تحتضنني مرة اخرى ، الزمن غير الزمن والمكان غير المكان ..الان ستتحقق بشارة العم عبدالله” لاتستعجل الموت
هو يجيلك يركض ” . سأكون بانتظار المنقذ ملك الموت بعد تنفيذ الحكم ، لكن سيبقى سؤال يراودني لحينه ..
هل سأموت كافرا ؟

زر الذهاب إلى الأعلى