مناهج النقد الادبي وصراع السلطة
اجنادين نيوز / ANN
د. صلاح حمادي الحجاج
الصراع هو أحد المفاهيم المركزية والاشكالية في الفكر الفلسفي، اذ يعكس جوهر الوجود والتفاعل الإنساني سواء كان مع نفسه او مع العالم من حوله. ولطالما كانت نظرة الفلاسفة إلى الصراع بوصفه ظاهرة طبيعية وحتمية تُشكّل الوجود الإنساني بأكمله. فعلى سبيل المثال في الفلسفة القديمة، تناول الفيلسوف الاغريقي (هيراقليطس) فكرة الصراع كقوة محركة للكون، حيث رأى أن “الصراع هو أبو الأشياء كلها”، بعدما اعتقد ان عملية التناقض بين العناصر يخلق التوازن والنظام.
أما في الفلسفة الحديثة، فقد شهد مفهوم الصراع تطورا ملحوظا بعد ان هبط ليشمل النواحي الاجتماعية والسياسية. لذا نجد ان الفيلسوف الالماني(هيغل)، على سبيل المثال، استخدم جدلية الصراع ولاسيما صراع (السيد والعبد) موضحا بذلك الكيفية التي يتم فيها الصراع بين الطرفين وما ينتجه من تطوراً في الوعي الإنساني. اما في المقابل، فان الفيلسوف والمفكر الاقتصادي (كارل ماركس) فقد ركّز على الصراع بمفهومه الطبقي كمحرك رئيسي للتاريخ، معتبراً أن التوتر بين الطبقات الحاكمة والمقهورة يؤدي إلى التغيير الاجتماعي بمعنى ان نتيجة هذا الصراع وما يتركه من مظاهر الانتصار او الهزيمة هو من يحدد المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية عبر التاريخ.
بمعنى ان الصراع في الفكر الفلسفي يعبر عن التوترات الناتجة عن تفاعل القوى المتصارعة والمتناقضة، وهو ما يمكن إسقاطه مباشرة على مناهج النقد الادبي وتحديدا على العلاقة بين الكاتب والنص والقارئ، هذا الثالوث الذي من خلاله تتحدد وتتجسد صراع السلطة في كل طرف من هذه الأطراف الثلاثة فالنقد الأدبي لا يخلو من أشكال متعددة من الصراعات حول “من يمتلك الكلمة الفصل؟” هل هي سلطة (الكاتب) بوصفه المبدع؟ أم سلطة (النص) ككيان مستقل يحمل معاني قد تفوق وعي الكاتب نفسه أم سلطة (القارئ) الذي يقوم بعملية اعادة تأويل النص وفق أفق توقعاته وفكره الخاص. وبهذا المعنى يمكن القول ان تطور مناهج النقد الأدبي وتنوعها يرتبط بعدة بتحولات فلسفية وثقافية تعكس طبيعة الصراع المستمر على اعتلاء السلطة بين كل من (المؤلف، النص، والقارئ). هذه العلاقة الجدلية بين الأطراف الثلاثة تمثل صراعاً خفياً أو معلناً على الهيمنة التأويلية والنقدية.
في النقد التقليدي القديم، كانت السلطة غالباً ما تميل لصالح الكاتب باعتباره “المعنى الوحيد”، لكن مع التحولات في مناهج النقد الحداثية وما بعدها، بدأت السلطة تنتقل تدريجياً إلى النص ذاته ثم إلى القارئ الذي يُصبح شريكاً في إنتاج المعنى أو حتى مفسراً مستقلاً له، فإن الصراع بين الكاتب والنص والقارئ يتبع مساراً متشابهاً: يمكن توضيحها على الشكل الاتي:
مرحلة سلطة الكاتب: في هذه المرحلة، يحتكر الكاتب السلطة، اذ يُعتبر المصدر الوحيد لإنتاج المعنى والمفسّر الشرعي لنصه، وهذا ما تجسد في المناهج النقدية القديمة(السياقية) التي ربطت النص بنوايا الكاتب وأفكاره والتي منها المنهج التاريخي: الذي يركز على دراسة النص الأدبي ضمن سياقه التاريخي من خلال الاهتمام بالمؤلف والظروف السياسية والثقافية المؤثرة في انتاج ذلك النص. اما المنهج النفسي: فانه يعتمد على علم النفس لتحليل النصوص ولاسيما على منهج عالم النفس (فرويد) الذي يبحث في الدوافع النفسية اللاواعية ودورها في انتاج النص. اما المنهج الاجتماعي (الماركسي): يرى الأدب انعكاسًا للبنية الاقتصادية والاجتماعية، مع التركيز على الصراع الطبقي الخاص ببيئة الكاتب ودورها الرئيسي في تصدير المنجز الادبي. ويستنتج مما تم ذكره ان المناهج التقليدية منحت السلطة للمؤلف بعد ان تصدرت الظروف الخارجية المحيطة به المصدر النقدي بعيدا عن النص من الداخل.
مرحلة سلطة النص: مع ظهور النظريات البنيوية، او ما يسمى بمناهج النقد الحديثة (النسقية) التي من خلالها انتقلت السلطة إلى النص بوصفه كياناً مستقلاً عن كاتبه. أصبح النص يحمل بنيته الداخلية التي تنتج معانيه بغض النظر عن نية الكاتب أو سياقه ومن هذه المناهج المنهج البنيوي: الذي يرى النص كبنية مستقلة عن سياقه الخارجي، مع دراسة العلاقات الداخلية للنص. والمنهج السيميائي: الذي يدرس العلامات والرموز لتكوين المعاني من خلال الإشارات اللغوية وغير اللغوية. بمعنى ان هذه المناهج شهدت انتقال السلطة من المؤلف الى النص بعد ان تم اعتماد البنية الداخلية للنص في عملية النقد والتحليل والابتعاد عن الكاتب وما يحيط به من ظروف خارجية.
مرحلة سلطة القارئ: والتي من خلالها أُعيد توزيع السلطة لتصبح في يد القارئ، الذي بات يمتلك حرية تأويل النص وإعادة بناءه وفقاً لسياقه الخاص وخلفيته الثقافية ووعيه الادبي، كما هو الحال في المنهج التفكيكي ونظريات القراءة او ما يسمى مناهج النقد ما بعد البنيوي: اذ ان القارئ أصبح المحور الرئيسي، لذ تتعدد المعاني الخاصة بالنص بناءً على أفق توقعه وتأويله الشخصي.
لكن السيطرة واعتلاء هرم السلطة ليست ثابتة؛ وذلك لأنها اشبه بديناميكية تتغير حسب المناهج النقدية، وحسب السياقات الثقافية، وحتى حسب المواقف الشخصية للمتلقي. نفسه، وهنا يصبح النقد نفسه الية صراع مستمر بين الأطراف الثلاثة، وهذا الصراع بطبيعة الحال لا يهدف إلغاء أحدها، بل لتوضيح واثبات التفاعل بين هذه الأطراف المتصارعة بوصفه مصدراً لتعددية المعنى وثراء النصوص لكن يبقى السؤال هو ماذا بعد القارئ؟ ومن هو الزعيم القادم، وهل ينتهي الصراع الى هنا ام هناك حدثا جديد؟ .