الانسان ما بين التقديس والتدنيس عبر العصور
اجنادين نيوز / ANN
الدكتور صلاح حمادي الحجاج
شهدتْ الحقب التاريخية منذ بدايتها إلى يومنا هذا العديد من التحولات الفكرية والفلسفية طالت جميع الجوانب الإنسانية، وألقت بظلالها على المفترقات العامة للوجود الانساني. لذا كانت مكانة الإنسان عبر العصور تتذبذب وتتغير بشكل ملحوظ، متأثرة بالتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية وما شكلتها من ملامح بارزة ظهرت على انسان تلك المرحلة التي جعلته يتنقل ما بين التقديس تارة والتدنيس تارة أخرى، ولدراسة تلك المتغيرات لابد من التطرق الى تلك المراحل بداً من العصور القديمة الى عصور ما بعد الحداثة وعلى النحو الاتي:
ففي العصور القديمة كان الإنسان القديم يعيش وسط ما يسمى بتعدد الآلهة حيث وجد نفسه مهزومًا ومضطهدا دائما من سطوة تلك الآلهة او الوحوش الأسطورية. اذ كانت هذه الحقائق تجعل الإنسان مضطرا إلى تمجيد الآلهة وتقديم نفسه كقربان من أجل إظهار عظمتها وقوتها ونفوذا. من هنا يمكننا ان نضع الإنسان في هذه الحقبة ضمن خانة التدنيس، بمعنى ان الإنسان في هذه العصور لم يكن يرى نفسه ككيان مستقل بل كان في حالة من الخضوع الكامل لسلطة الآلهة. وهذا يفتح الباب لتحديد العلاقة بين الإنسان والسلطة (سلطة الالهة وانصافها) في هذه المرحلة اشبه بسلطة السيد والعبد المطيع.
وإذا انتقلنا الى العصور الوسطى حيث انتقلت السلطة من الآلهة والقوة الغيبية إلى الكنيسة وعندها كان يعتقد البعض أن الكنيسة هي سبيل الخلاص من سطوة وظلم الالهة، ولكن الحقيقة على العكس تماما لان السلطة (الكهنوتية) عملت على تدنيس الإنسان مرة أخرى من خلال جعله يظهر في صورة الخطاء والعاصي والمذنب، مما يجب عليه التوبة- التوبة التي تخدم مصالح الكنيسة السلطوية والمادية، إذًا في العصور الوسطى، كان التدنيس يتم من خلال فرض صورة سلبية للإنسان ودفعه للتبعية للسلطة الكنسية، ما يخلق توازنًا غير عادل تمارسه سلطة المؤسسات الدينية في تشكيل صورة الإنسان ومنظومته الانسانية.
اما عصر الحداثة عصر التنوير والعقل والثبات بدأنا نشهد مرحلة تحولات جديدة اذ أصبح الإنسان في هذه الحقبة محورًا مركزيًا في الفكر الفلسفي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي لأنه اعتمد على العقل بصورة رئيسية واعتبر ان العقل هو لأداة التي من خلالها يتم تقديس الإنسان ورفع شأنه، وهو ما شكل مرحلة تأليه الإنسان و تأليه العقل، حيث أصبح الإنسان في هذه المرحلة هو المركز وكل ما حوله خاضعًا لقدرته العقلية. بمعنى التقديس الذي وصل له الانسان في هذه الحقبة كان مرتبطًا بنهضة علمية تكنولوجية هائلة لم تستثمر بصورة صحيحة على الاغلب لأنها ركزت على صناعة أسلحة ومعدات وممنوعات تدمر وتهدد الوجود البشري بأكمله، ويمكن القول ان هذه المرحلة بانها الوحيدة التي قدست الانسان من خلال الرجوع الى العقل الا انها كانت مرحلة قداسة قلقة.
اما عصور ما بعد الحداثة فقد بدأ العقل والعلم يتعرضان لهجوم فكري، بسبب الاعتقاد السائد بان العقل دمر الانسان والإنسانية، لذا تم قلب الموازين تماما اذ أصبحت الحقيقة مشكوك فيها، وظهرت حالات من الفوضى الفكرية؛ حيث أصبح الجنون محل العقل والسيولة محل والصلابة، والمتغير محل الثابت بذلك بدأنا نواجه حالة جديدة من التدنيس القائم على كل هذه المتغيرات التي بدأت بعدما شهد الدين تراجعا ملحوظا امام التطورات التكنولوجية المرعبة التي استغلت غياب الرقيب لتجعل جسد الانسان اشبه بسلعة استهلاكية خاضعة للمتاجرة غير المشروعة التي يطول الكلام عنها.
ويمكن ايجاز ما تقدم على ان الإنسان شهد عبر العصور تقلبات شديدة في مكانته، فقد تكيف وتعامل مع الصراعات والمتغيرات الثقافية والفكرية التي شكلت وجوده، ففي الأزمان القديمة، كان الإنسان يُعتقد أنه عرضة لصراع الآلهة وقوى الطبيعة، مما جعله يتنقل بين مشاعر الرهبة والتضحية. وفي العصور الوسطى، أصبح الإنسان ألعوبة في يد المؤسسات الدينية، حيث جُعل محوراً للخطايا والاخطاء، وموجباً للإتباع والالتزام الصارم بقوانينها. ومع صعود الحداثة، ارتقى الإنسان إلى منزلة عالية كائن خارق يتمتع بعقلانية ثابتة وقدرة هائلة على الابتكار المدمر وأخيراً، في عصر ما بعد الحداثة، أصبح الإنسان مهمشاً ومنمطاً في ظل العولمة والتكنولوجيا المتسارعة، معانياً من فقدان الهوية الذاتية والتبعية المطلقة للنظام الرقمي.
وعطفا على ما تقدم لابد من التساؤل حول ما سيحدث في العصور القادمة، بعد مرحلة ما بعد الحداثة، هل سيستمر الإنسان في حالة من التدنيس؟ أم أن هناك احتمالية للعودة إلى نوع من القداسة القلقة؟