الفراغ الحضاري: فراغ بين المراكز والأطراف

اجنادين نيوز / ANN
الأستاذة الجامعية والباحثة الدكتورة لجين سليمان

على مدار العقود الماضية، دارت نقاشات عميقة بين المفكرين حول طبيعة العلاقة بين الحضارات: هل تقوم على التكامل والتعاون أم على الصراع والتنافس؟ وهل يمكن لحضارة أن تهيمن على أخرى وتفرض سيطرتها على المشهد العالمي؟

لكن مع تسارع التطورات العالمية اليوم، يبدو أن النقاش الأكثر إلحاحًا لم يعد يتمركز حول صراع الحضارات أو تكاملها فقط، بل بات من الضروري توسيعه ليشمل ظاهرة جديدة يمكن تسميتها بـ “الفراغ الحضاري” بين الدول المتقدمة وتلك المتخلفة. هذا الفراغ يعكس تناقضًا صارخًا بين التقدم الهائل الذي حققته البشرية وبين أزمة متزايدة توحي بتراجع أهمية الإنسان نفسه، وهي أزمة بدأت تتفاقم بشكل متسارع.

تناول العديد من المفكرين سابقًا أزمة النظام العالمي وآفاقه المسدودة، حيث يرى البعض أن الفراغ الحضاري الذي نشهده اليوم هو نتيجة لتحوّل العالم إلى “قرية صغيرة” بفعل سطوة التكنولوجيا. فقد سهّلت هذه الثورة الرقمية التواصل بين البشر وجعلته أسهل وأسرع، لكنها في المقابل قللت من أهمية الحوار البشري المباشر. ففي عصر التواصل الرقمي، بات الحوار مع الآلة أكثر جاذبية وسلاسة من الحوار الإنساني، مما أدى إلى تفريغ العلاقات الإنسانية من مضمونها العميق، وتحويلها إلى مجرد تفاعلات سطحية محكومة بضغط الأزرار وشاشات اللمس.

وفي حين تتسارع وتيرة تطور الآلة وتقنياتها، يشهد الإنسان، بوصفه كائنًا اجتماعيًا وثقافيًا، تراجعًا واضحًا، ما أدى إلى خلق حالة من الفراغ الروحي والمعنوي. من جهة أخرى، يرى بعض المفكرين أن هذا الفراغ يعكس أيضًا انفصال النخب عن واقع المجتمعات التي تنتمي إليها.

لم تعد النخب اليوم، سواء أكانت سياسية أم ثقافية أم اقتصادية، تعيش حالة الارتباط العضوي بمجتمعاتها، بل أصبحت في كثير من الأحيان أداة لخدمة السلطات أو المصالح الخاصة، مما زاد من ابتعادها عن هموم المواطن العادي. هذا الانفصال بين النخب والجماهير أدى إلى اتساع الهوة بين الطبقات الاجتماعية، وأسهم في تعميق الشعور بالفراغ الحضاري.

إلا أن جوهر هذه الأزمة يتجلى في الفجوة الهائلة بين الدول المتقدمة الغنية والدول الفقيرة المتخلفة، وهي الفكرة التي صاغها المفكر الاقتصادي سمير أمين بمفهوم “المراكز” و”الأطراف”. فهذه الفجوة ليست اقتصادية فحسب، بل تمتد إلى الأبعاد الثقافية والحضارية، مما يعكس أزمة أعمق يعيشها النظام العالمي بأكمله، حيث يتم تهميش المهمشين وإهمال الفروق العميقة بين الدول الغنية والفقيرة. في ظل هذا الواقع، يبرز التساؤل حول كيفية مواجهة هذا الفراغ الحضاري، ليظهر الأنموذج التنموي الصيني كمثال على إمكانية ردم هذه الفجوات من خلال سياسات تنموية شاملة.

الصين وأنموذج مواجهة الفراغ

في ظل النظام العالمي القائم، الذي يهيمن عليه منطق القوة والهيمنة، برزت الصين كأنموذج فريد يسعى إلى مواجهة الفراغ الحضاري الذي تعانيه العديد من الدول، خاصة في عالم الجنوب النامي. ففي حين تكرس الدول الغربية، التي تشكل “المركز” في هذا النظام، سياسات تعمق الفجوة بينها وبين “الأطراف”، سعت الصين إلى تحقيق نوع من التوازن النسبي، حتى داخل حدودها، عبر أنموذج تنموي يتحدى المنطق السائد للنظام العالمي، بعيدًا من الشعارات الفارغة. ومن أبرز إنجازاتها في هذا السياق نجاحها في القضاء على الفقر المدقع، ولا سيما الفقر المرتبط بالحصول على الغذاء.

على مدى العقود الماضية، تمكنت الصين من انتشال مئات الملايين من مواطنيها من براثن الفقر عبر سياسات تنموية مدروسة، في إنجاز لم يقتصر على تحسين المؤشرات الاقتصادية، بل شكّل تحديًا مباشرًا لحالة تهميش الفقراء وعدم المساواة. فالسعي نحو تحقيق عدالة اجتماعية ضمن حدود الدولة الواحدة، ومن ثم الانطلاق بخطط تعاونية مع دول العالم الثالث، قد يسهم في خلق نوع من التوازن في ظل التطرف القائم، وربما يؤدي لاحقًا إلى تقديم حالة حضارية جديدة، خاصة إذا ما واكب هذه المشاريع التنموية نهضة ثقافية وفنية.

إلا أن إحدى الانتقادات التي وجهت إلى الصين تتمثل في أنها تعطي الاقتصاد أولوية على حساب المجالات الإنسانية، وهو ما قد يكون له مبرراته في الوقت الراهن، نظرًا لالتزامها بالنهج الماركسي الذي يفترض أن النهوض بالقوى الإنتاجية التحتية سيمهد الطريق لاحقًا لازدهار البنى المجتمعية الفوقية. وبمعنى آخر، فإن استكمال الصين لمشروعها الحضاري المتكامل قد يستغرق وقتًا أطول حتى ينضج من كل الجوانب، لكن يبقى الجانب التنموي، الذي تتبناه حاليًا، الأكثر أهمية في ظل الفجوة العميقة بين “المراكز” و”الأطراف”. أخيرًا، ربما يكمن الدليل الأوضح على هذا الفراغ الحضاري الذي تعيشه الأمم والشعوب في حقيقة أن قراءة هذه التحليلات قد لا تثير اهتمام الكثيرين، إذ باتت هذه الأفكار متكررة ومألوفة من دون أن يرافقها أي تحرك حقيقي لمعالجتها. وهكذا، تبقى كلمة “حضارة” مجرد شعار نظري، بينما يستمر الفراغ في الاتساع.

زر الذهاب إلى الأعلى