من العولمة إلى الانكفاء القومي: تحولات الرؤية الأمريكية ومصير الاقتصاد العالمي

اجنادين نيوز / ANN
بقلم: فادي البرغوثي
عقب انهيار الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينيات، وجدت الولايات المتحدة نفسها في موقع القطب الأوحد في النظام العالمي. هذه اللحظة التاريخية لم تكن مجرد نهاية لحرب باردة، بل كانت بداية لصياغة نظام اقتصادي عالمي جديد، تهيمن عليه رؤى السوق الحرة، وتُدار مفاصله تحت راية العولمة الليبرالية. وتحويل التجارة الدولية إلى أداة استراتيجية في ترسيخ الهيمنة الغربية، واعتُبر تحريرها ضرورة لا مفر منها “لتنمية” دول الجنوب.
لكن ما سُمّي بـ”تحرير الأسواق” كان، في جوهره، تفكيكًا ممنهجًا لقدرات الدول النامية على حماية صناعاتها وزراعتها ومجتمعاتها المحلية. أُزيل من خلالها القيود الجمركية تحت ضغط المؤسسات الدولية، فغزت السلع الغربية الأسواق الهشّة، وفاقمت من تبعيتها الاستهلاكية وبالتالي لم تستطع الصناعات المحلية الصمود أمام جودة وأسعار البضائع القادمة من الدول الكبرى، مما أدى إلى إضعاف الهياكل الإنتاجية الوطنية وتآكل القاعدة الاجتماعية للاستقلال الاقتصادي.
لم يكن هذا الضرر قاصرًا على الجنوب، بل سرعان ما بدأت آثاره تنعكس على الشمال نفسه. فالشركات متعددة الجنسية، مدفوعة بجشع تعظيم الأرباح، قد نقلت عملياتها الإنتاجية إلى بلدان تتمتع بيدٍ عاملة رخيصة وضعف في القوانين الاجتماعية. وبدلًا من أن تجلب العولمة الرخاء، تسببت في موجات بطالة داخل الولايات المتحدة نفسها، وولّدت شعورًا متزايدًا في الأوساط الشعبية بأن العولمة كانت صفقة خاسرة للطبقة الوسطى والعاملة .
في هذا السياق المتأزم، برز دونالد ترامب كصوت احتجاجي ضد ما آل إليه الاقتصاد الأمريكي. بخطابه القومي الشعبوي، حيث سعى إلى استعادة ما اعتبره “عظمة أمريكا” عبر الانكفاء على الداخل، وتقييد حركة التجارة، وفرض الرسوم الجمركية، بل وتهديد الشركات التي تنقل أعمالها خارج البلاد وأعاد إلى الواجهة مفاهيم كانت منبوذة في أوساط النخب الاقتصادية، مثل “الحمائية” و”الصناعة الوطنية” و”السيادة الاقتصادية” .
ومع أن خطاب ترامب جاء دفاعًا عن المصالح الأمريكية، إلا أنه فتح – ربما دون قصد – نافذة لتفكير مغاير حول إمكانية إعادة هيكلة النظام العالمي، وبالذات فيما يتعلق بدول الجنوب. فإذا فقدت العولمة زخمها، فإن الفرصة قد تكون سانحة لتستعيد الدول النامية أدواتها السيادية، وتعتمد على مواردها الذاتية، وتُعيد الاعتبار للإنتاج المحلي في مقابل الاستيراد الاستهلاكي.
لكن هذه التحولات ليست بلا كُلفة. فالانسحاب الأمريكي من الأسواق قد يؤدي إلى كساد عالمي، خاصة إذا ما فُقدت الأسواق التقليدية للمنتجات الغربية. والولايات المتحدة، التي لطالما ربطت سياستها الاقتصادية بمشاريع الهيمنة، فتجد نفسها في أزمة تناقضية بين الحاجة لحماية الداخل، والرغبة في استمرار التمدد الخارجي.
إنّ تجربة ترامب، بما فيها من تناقضات، ليست مجرد مرحلة سياسية عابرة، بل قد تكون مؤشرًا على بداية تفكك المنظومة النيوليبرالية التي حكمت العالم منذ مطلع التسعينات. وإذا صحّ هذا التقدير، فإن العالم – وبخاصة دول الجنوب – سيكون أمام مفترق طرق: إما إعادة إنتاج النموذج القديم تحت مسمّيات جديدة، أو التفكير الجاد في بناء منظومات اقتصادية بديلة، تُعيد للاقتصاد مهمته الأصلية في خدمة الإنسان، لا السوق.