العرب وتأجج الفتن الكبرى

اجنادين نيوز / ANN
جريدة البلاد
الكاتب البحريني رضي السماك
استطرادًا لحديثنا السابق تحت عنوان “استحضار التاريخ وتمثله”، نتطرق اليوم إلى مسألة أخرى ذات صلة بالموضوع، وعلى درجة من الأهمية والخطورة، ففي فترات احتدام الصراعات الفئوية الدينية، سواء كان ذلك بالتحريض السياسي أو تسييس الدين، كثيرًا ما يسود في مثل هذه الأجواء المريضة تفسير التصريحات والأحاديث التي يدلي بها رجال دين أو نشطاء سياسيون أو قادة دول إلى وسائل إعلام جماهيرية على غير مقاصدهم. ويندرج في عدادهم كتّاب الصحافة ليكونوا بذلك ضحايا لتلك الأجواء المتشنجة المتكهربة، إن كان ذلك لسوء فهم والتباس عفوي في إدراك مقاصد من أدلوا بها أو دبجوا تلك المقالات، أو لوقوعهم تحت تأثير من يفسرونها بغير ذلك عن عمد وسابق إصرار. وهذا ما يسهم للأسف في تأجيج تلك الصراعات التي قد تتحول إلى فتن كبرى وحروب دينية مؤسفة لا تبقي ولا تذر، من شأنها أن تفضي إلى خلخلة تماسك النسيج الوطني لهذا المجتمع العربي أو ذاك.
وهنا يأتي دور النخبة المثقفة المتسلحة بالوعي الوطني المعمق، وذلك على مستويين: الأول دور توعوي وقائي لكي لا ينزلق المجتمع إلى تلك الفتن الفئوية البغيضة المفضية إلى الحروب المدمرة، والثاني دور توعوي وإطفائي في آن واحد عندما تقع – لا سمح الله – تلك الحروب. وما لم يكن المثقف العربي متسلحًا بالوعي الوطني رفيع المستوى والنزيه المحايد، فإنه لا يمكن أن يلعب ذلك الدور بكفاءة. وللأسف فإنه في مثل تلك الأجواء المتشنجة المريضة كثيرًا ما يغيب أو يغيب صوت الحكماء من كل الفرقاء المعنيين، ولعل كثرة منهم تؤثر الصمت أو “سكة السلامة” حينما تكون أصوات الفتنة صاخبة مرتفعة، خصوصًا إذا ما كانت تتمتع بمراكز نفوذ سياسي أو ديني.
وأنت تفهم أو تتفهم وقوع بسطاء الناس الطيبين في شر سموم تلك الأجواء المريضة، عبر دغدغة مشاعرهم الدينية وتزييف وعيهم، لكن ما لا تتفهمه أن ينزلق أنصاف المثقفين، أو حتى من يفترض أنهم متسلحون بالوعي السياسي الوطني الكبير إلى التخندق إلى صف هذا الطرف أو ذاك. وكم شهدنا فيما مر به عالمنا العربي من أحداث جسام داخلية في هذا القطر أو ذاك، مثقفين يُشار إليهم بالبنان، ضعفت مناعتهم السياسية المتينة في مثل تلك الأجواء المريضة المحتدمة لينحازوا بيولوجيًّا أو “جينيًّا” إلى الجماعة الدينية التي ينتمون إليها، لا بل تجد بعضهم قد تحوّل بفعل الصراع الداخلي النفسي الذي مر به إلى آيديولوجية “إسلام سياسي” نقيضة للفكر الوطني المستنير الذي كان يتبناه ويذود عنه، فيما بعضهم الآخر يفعل ذلك بوعي مسبق عما يفعله، مؤثرًا المصلحة الخاصة الضيقة على المصلحة الوطنية العليا.
وسنستعرض في مقال الأسبوع المقبل مثالًا لحدث فني جرى في خضم الحرب الأهلية (1975 – 1990) والتي لم تخلُ من أبعاد سياسية فئوية، لكن للأسف جرى تفسيره من أحد أطراف الحرب حينذاك تفسيرًا طائفيًّا مريضًا ومضحكًا على غير مقاصد نجمة الحفل.