لم يعد العراق سوى شتات صور شمسية
اجنادين نيوز / ANN
كتابة – إيمان البستاني
منذ سبعة عشر عاما، بلا كلل او ملل،و انا اجمع الصور القديمة عن العراق وما يجاوره، هل هي هواية ام عشق ؟ للأن لم اجد لها تفسير، حتى بات خزين كبير من الصور التاريخية يرقد بأمان في حاسوبي، عملت منها اكثر من نسخة بديلة خوفاً من ضياعها نتيجة قضاء وقدر الكتروني.
كلما زرت صديق بدلاً من علبة حلوى اعطيته نسخة من هذه الصور التي وصلت الى عشرين الف ويزيد، ولو فكرت في طبعها يوماَ لخرجت الصور من الشبابيك لكثرتها، احيانا اقلبها وكأنني اراها لأول مرة، لكنني لا امكث طويلاً بقربها، اتركها لانني اخاف منها صراحة، كأن التمعن بها هو دخول مشرحة، رؤية اناس ماتوا منذ زمن ليس امراَ عاديا، احيانا اقول لنفسي ربما كنا نحتاج منهم اذن لمشاهدة صورهم، هو حقهم وآرثهم، ان تتناقله الايادي والعيون حتماً هناك من ثمن لهذا، ومن هنا جاء خوفي من هذه الصور العتيقة.
اخاف عندما اشم رائحة زمانهم، تنقلب الرؤية عندي الى استحضار، احيانا يحضرون لعالمي، اسمع خرير دجلة وصوت حمائمه ونواعير الفرات وصفاء جرفه، ارى الجنود الاتراك بشواربهم ومعاطفهم وجزماته يمرون من غرفتي مع وحل انسحابهم، اسمع شتائم الانكليز في حصار الكوت، هوسات الثوار وجيلاتهم، صوت السقا وهو يحمل قربة الماء، تجمهر الاولاد في ساحة مدرسة نصفها قبور رخامية، السقوف العالية لمكاتب القشلة يئن فيها طنين المراوح، رجالات الزمن الملكي اختبئ منهم لانني اعلم ببشاعة مصيرهم، كم مرة دخلت قصر الرحاب حينما يكونون على سفر، اثاثهم الملكي مغطى بشراشف بيضاء، دٌرج خزائنهم مليئة بملابس بيضاء أصفرت ولا يخلو المشهد من هاتف اسود لماع بقرص له وزن فيل آسيوي، كم مرة اداروا القرص وتحدثوا، ترى ماذا كان حديثهم ؟ قناني الحليب في مطبخ فيلا الدكتور صائب شوكت في شارع ابو نؤاس تنبئ بأن صاحب الدار طبيب، خشخشة الذهب لنسوة كرديات يستعدن لحضور حفلة عرس، بائعات اللبن تلطمني رائحة اثوابهم القروية، اتلصص لحديث المسنين الذي لا يكتمل ابداً، اصوات الباعة تعلو على صوت المصور الشمسي، ابو الفول السوداني وهو يرتدي معطف في عز ظهيرة تموزية، شارع الرشيد بأفنديته المتأبطين الصحف، صور الزعيم تملاء المكان، قاسم واقف ، قاسم جالس، قاسم عابس، قاسم ضاحك، قاسم بقبعة عسكرية، قاسم جانبي، قاسم جبهي، قاسم ثلاثة ارباع، وكل صوره وحيد تماما َ، بعضها ملون يدوياً، خداه ورديان وعينان زرق، سيارات حديثة لها زعانف اسماك قرش، باعة متجولون مزق التجوال وجوههم، كهوة عزاوي المدلل بضجيج روادها، زعماء أكراد تارة في وقفة وفاق في شرفة الحكومة وتارة مدججين بالسلاح معلنين الحرب على زملاء الشرفة، كعك السيد دكان عمره أقدم من نصف دول العالم، باصات بغداد اللندنية الحمراء بطابقين وهي تميل على طرفها الايمن، سينمات بغداد وجمهرة شباب بنظارات شمسية معلنين زمن اللقطة هو احد الاعياد، قوطية تتن وزناد صاغها مارد من الجن، أناقة طلعة و وسامة حضور ناظم الغزالي، الفرهود العراقي بكافة انواعه من فرهود اليهود الى فرهود الامريكان، دبابات الانقلاب الرابضة في حر تموز ودبابات الانسحاب المتحولة الى فحم، جمهرة ابوخليل يتوسطهم رئيس الصدفة، حروب البلد التي لا تنتهي بمنظر دخانها وفجيعة نسائها وجثث رجالاتها وايتام كالذباب في كثرتهم، وزراء وسفراء سحنتهم عراقية بأمتياز تخفف منها أناقة قرينتاهم، العمال في تنقيبات آور وهم يلفون وجوههم من الغبار كمن به وجع ضرس، كسبة و عمال مسطر نسوا انفسهم من ملل الأنتظار، الغبار المتكدس على خشب الشناشيل، رائحة الغداء تعلو في حوش بغدادي مع صوت قوانة سليمة باشا، روازين الفرش وما تختزن من صرر وادعية، غبار لعب الصغار في الدربونة وضجيجهم، غرام العيون من تيغة السطوح، اجتماع نسوي يفوق اهمية كل اجتماعات مجلس الأمن لكون ( الكنة ) عاقر، مشط الخشب تحرسه عقرب في صندقجة الجدة، صيف بغداد حاضر اكثر من شتائها، اقراط واساور من العهد الأشوري تكفي لفتح ثلاث دكاكين صاغة في شارع النهر………يتعبني حضور ارواحهم جميعاً خارجين من الصور، يربكني تجوالهم حولي، ثم يدلق عليّ نهاية الفرجة سطل كأبة، لكي أفيق منها يلزمني درزن أيام، ومع كل هذا لازلت اتتبع زيادة كنز الصور الأرثي، واذا اردنا تتويج صورة واحدة لكل هذا الخزين وأختيارها ( ملكة جمال الصور ) لأخترت دون تردد صور ( نصب الحرية وساحة التحرير ) رمز بغداد المشّرف.